شبكة النبأ: في التحولات الكبيرة التي
رافقت رحلة الانسان الطويلة مع الحياة، تدخل الفكر والدين والفلسفة لكي
يرتفعوا بقيمة الانسان نحو الأفضل، من خلال تشذيب الطبيعة البشرية
وتحسينها ونقلها بالتدريج من حالة التوحش الى حالة التحضّر ومن حالة
الانانية والمصلحية الى حالة التكافل والإيثار، وقد حدثت هذه النقلات
التطورية في فكر وسلوك الانسان عبر وسائل عديدة، كالتعليم والمعايشة
المتبادلة ومحايثة التجارب على نحو متبادل بين الامم والشعوب وغير ذلك
.
ويأتي الاعلام المعاصر ليلعب دورا هاما في هذا المجال، وربما صار (الاعلام)
بتنوع قنواته من المتصدين الأوائل لصقل شخصية الانسان والارتفاع بها
الى أقصى ما يمكن من درجات الرقي والتحضّر، بمعنى آخر أن المهام
الملقاة على عاتق الاعلام لا تنحصر بكشف الحقائق وطرحها على الملأ فحسب
ولا اللهاث وراء المواضيع المثيرة من اجل كسب الشهرة وما شابه، بل
ينبغي أن يكون الاعلام من الوسائل الرئيسة التي تعمل بجد على نقل
الانسان الى المستويات المثلى من السلوك والفكر، وهنا نود أن نطرح
التساؤل التالي، هل قام الاعلام فعلا بدوره المطلوب في هذا المجال؟ وهل
تنبّه لما ينبغي القيام به حيال هذا الامر؟.
إن البحث في هذا الموضوع ربما يحتاج الى مجال أرحب من مرورنا السريع
في هذا المقال بموضوع هام كهذا، ومع ذلك لا بأس أن نؤشر بعض النقاط
التي تدخل في هذا المضمار، فحين نقول بأن مهام الاعلام لا تنطوي على
مسؤوليات من هذا النوع سنخطئ، وحين نقول ان الاعلام قام ويقوم بدوره في
هذا المجال سنخطئ أيضا.
وربما يقول قائل إن الحرية الاعلامية المتاحة الآن قد لا توجب تحديد
المهام مسبقا، بمعنى طالما ان الاعلام حر فلا يجوز إملاء المسؤوليات
عليه سلفا، ولكننا نرى عكس ذلك تماما، فحرية الاعلام لاتعني أبدا تنصله
من مهمته الانسانية التي تكون تربية الانسان وتطويره جزءً لا يتجزأ
منها، بل يمكننا القول بأن الاعلام متى ما تخلى عن مهمته في التوجيه
والتشذيب والصقل الانساني فإنه سيتخلى عن جانب مهم من مسؤولياته.
ولعل قائل يقول ان الدين والاعراف والنواميس والعلوم الانسانية هي
التي تقوم بهذا الدور، وهذا صحيح جدا، لكن الأصح أن يشترك الاعلام في
صنع منظومة ثقافية متطورة يتحلى بها عامة الناس من خلال عمليات التوجيه
والتحفيز والترسيخ للخصال الجيدة التي ترتفع بشخصية الانسان وتسمو بها
الى مرتبة التحضّر المتواصل.
وحين نتحدث عن دور الاعلام وتقصيره في هذا المجال فلا يعني هذا
تهميشا او تجاوزا على القيم والجهود المهمة التي قدمها للانسانية
جمعاء، ولكننا نسعى دائما الى ماهو أفضل ونرغب دائما بأن تكون النقاط
فوق حروفها، بمعنى أننا نحرص على أن يقوم الاعلام بدوره بالوجه الأمثل،
ولعل الاخطاء التي قد تقع فيها هذه المؤسسة الاعلامية او تلك ستنسحب
نتائجها على الفعل الاعلامي بصورة عامة، وستكون الطامة أكبر حين يتعلق
الأمر بالتعامل مع قيمة الانسان كونه المعيار الدقيق لدرجة الرقي
البشري، فكلما كان التعامل الانساني ساميا ومتحضرا كلما كان ذلك مؤشرا
على الرقي ويصح العكس كما هو متفق عليه بطبيعة الحال.
من هنا تأتي أهمية تعامل الاعلام مع الانسان كقيمة عليا لايجوز
التفريط بها او التغاضي عنها.
ومن الاخطاء التي ينبغي الاشارة إليها في هذا الصدد على سبيل
المثال، هو الخطأ الذي وقعتْ به احدى القنوات الفضائية العراقية قبل
أيام، فقد كانت تبثّ برامجها الاعتيادية في يوم الجمعة الموافق
31/7/2009 وأثناء بثّها لأحد البرامج الفكاهية التي تُضحِك المشاهِد
ظهرَ شريط خبري تحت عنوان (عاجل) ينصّ على (استشهاد وجرح عشرات
العراقيين بتفجيرات متزامنة لعدد من الجوامع والحسينيات في بغداد)
وتكررَ الشريط الاخباري بالظهور على الشاشة مع استمرار عرض القناة لهذا
البرنامج الترفيهي المضحِك، وهذا ما أظهر نوعا من الاستخفاف بأرواح
الناس، إذ كان حرياً بالقناة ان تغيّر البرنامج الكوميدي او تبث الخبر
بصورة مناسبة تظهر الاحترام للارواح التي أُزهقت.
إن مثل هذا التعامل الاعلامي لهذه القناة او غيرها لم يكن مقصودا
بطبيعة الحال لكنه شكل خطأ فادحا في التعامل مع الانسان كقيمة لايجوز
التغاضي عنها، وربما يحدث ذلك في وسائل اعلامية أخرى، ولعل مثل هذه
الاخطاء وغيرها تنم عن عدم دراية ولا مبالاة حيال الامور الحساسة التي
يتعامل بها الاعلام.
لذلك نرى ان من اهم واجبات الاعلام بأنواعه كافة أن يتعامل مع قضايا
الانسان بما يحفظ قيمته وبما يسهم في صقل شخصيته وتشذيبها وتطويرها
بصورة فعالة نحو نزعة التحضّر والرقي الذي كان وسيبقى أحد أهم أهداف
الانسان وهو يواصل رحلته الطويلة والشاقة في مسيرة الحياة. |