العيش بكرامة شعار يرفعه صباغو الأحذية في العراق

تحقيق: هشام البيضاني

 

شبكة النبأ: (جمال) شاب في مقتبل العمر، اسمر بسمرة (اوباما)، اسودت أصابعه من صبغ الأحذية، يمشي بوجه طلق لا يعبأ بضيق عيشه، يستعين على شقائه بترديد أنشودة مفضلة لديه يداعب بها جراحاته، مكافح من اجل لقمة العيش لا يكترث بنظرة المجتمع القاصرة لمهنته، فهو يفترش أرضية السوق الشعبي في العزيزية إحدى أقضية محافظة الكوت ليمارس عمله كصباغ للأحذية.

يقول جمال في سرده لنا عن كيفية توارثه لهذه المهنة: "في ثمانينيات القرن الماضي نزحت عائلتي من(التنومة) في البصرة الملتهبة بعد اندلاع الحرب العراقية الإيرانية الى مناطق أكثر أمانا، فلم يكن أمام والدي الذي لم يكن يملك أي مؤهلات إلا أن يعيل عائلته الكبيرة فوجد ضالته بمهنة (صبغ الأحذية) بعد أن فشل في (العمالة) لمشقتها".

ويضيف جمال: "بعد أن بلغت من العمر ما يمكنني من أن أعين أهلي بالعمل بدلا من والدي المتعب، لم أتردد في العمل في هذه المهنة التي توفر لي العيش الكريم لي ولعائلتي".

ويسترسل جمال الذي غالبا ما يجبر الزبون على انتعال (مداس) مؤقت أثناء صبغه للحذاء (لأنه يرى إن وضع الزبون للحذاء أمام وجهه أثناء صبغه تقليل من شانه): "بصراحة فانا لا أجد فيها ما يخجل رغم مساسي بأحذية الناس فهو عمل على أي حال".

ويضيف استغرب من أفعال بعض الصبية من اللهاث وراء الزبائن مما ولدا تلك النظرة القاصرة في المجتمع لمهنتنا.

ابو داود صباغ آخر في عقده الرابع وهو معوق حرب يتخذ من قميص الخاكي (العسكري) بذلة للعمل، يصف عمله بأنه (شريف) فيقول: "لا استطيع أن أمد يدي لأحد لطلب المال فالعيش بكرامة لا يكفله إلا العمل".

ويضيف: "أنا فخور جدا باني وجدت لنفسي عملا رغم إعاقتي في الحرب العراقية الإيرانية التي لم يكن لي فيها ناقة ولا جمل".

مهنة لا تتطلب الجهد أو الذكاء

الشاب سلام عجيل روى لنا تفاصيل مباشرته بمهنة صبغ الأحذية فيقول: "توفي والدي وأنا في سن الثانية عشرة، فوجدت نفسي ابحث عن عمل لتوفير لقمة العيش لي ولوالدتي ولأختي الصغيرة، فأخذت أتعلم هذه المهنة من أبن عمتي لذي كان يمتهنها، فصنعت صندوقي الخاص وابتعت أدوات الصبغ من الفرش والأصباغ، منذ ذلك الوقت أي منذ أكثر ثلاث من سنوات وأنا أمارس هذه المهنة لبساطتها ولأنها لا تتطلب الشيء الكثير والموهبة والخبرة".

أما علاء الملقب (بهلول) الذي يحمل صندوقه الصبغ ويدور به على المحال التجارية واحداً بعد الآخر في السوق فيقول: "لدي العديد من الزبائن، وهم في الأغلب أصحاب محال، إذ غالبا ما استلم أحذيتهم لأقوم بصبغها في الخارج لكي لا يؤثر تواجدي داخل محالهم على سير العمل".

ويضيف بهلول: "اعتقد أنهم أفضل الزبائن، فهم يكرمونني فوق أجرتي، خاصة إذا كان لديهم ضيوف، إذ أقوم بصبغ أحذية ضيوفهم حتى لو لم يطلبوا ذلك".

ويستذكر أيضا:  "في إحدى المرات أكرمني تاجر سجاد مبلغ 5000 دينار لصبغي حذائه وحذاء ضيفه، لهذا فانا لا اجلس على الأرصفة، وأمارس عملي ما بين الساعة العاشرة صباحاً حتى الثانية ظهراً".

طارئون على المهنة

(مهند مغير) طالب في كلية المأمون يوصي بالحذر من بعض صباغي الأحذية إذ يقول: "ذهبت لأصبغ حذائي فسألت عن أجرة الصبغ فأجابني احدهم( بكيفك) ثم باشر عمله وعند الانتهاء فإذا به يفرض عليّ سعر ألف وسبعمائة وخمسين ديناراً للصبغ والتلميع وعند سؤاله عن السبب قال بأنه قد طلا حذائي بصبغ أساسي دون علمي وذلك لان حذائي كانت قديمة وبعد مداولات كثيرة بيني وبين الصباغ دفعت له مبلغ خمسمائة دينار وندمت على صبغ الحذاء قبل تحديد السعر".

مناطق وأسعار

تختلف أجور الصبغ حسب المناطق فاجرة صبغ الحذاء في المناطق الشعبية والكراجات تكون (250 ـ 500) دينار.

أما في المناطق التجارية فتكون أجرة الصبغ (750 ـ 1000) دينار والسبب يعود إلى وجود زبائن قادرين على دفع مبلغ لا يؤثر في جيوبهم المنتفخة في الوقت الذي يقتطع مثل هذا المبلغ جزءاً من ميزانية البعض في المناطق الشعبية والفقيرة .

مستلزمات المهنة

العلبة الخشبية من ضروريات المهنة، فإضافة الى وضع القدم عليها توجد أمكنة مخصصة للأصباغ والفرش وقطع القماش.. ويتراوح سعرها قرابة 30 ألف دينار، أما الفرشاة الكبيرة والتي ينحصر عملها بتلميع الأحذية فهي غالية الثمن، إذ تصل سعر الأنواع الأصلية منها الى 100 دولار وهي –كما يؤكد ابو شيماء- هولندية المنشأ وتصنع من شعر ذيل الحصان ويمكن الحصول عليها من الصباغين الذين هجروا مهنتهم أو من الدول المجاورة كسوريا والأردن.

يذكر أن ما يحصل عليه الصباغون يختلف باختلاف المناطق وأشهر السنة إذ يتجاوز في بعض الأيام تصل وارداتهم النقدية الى أكثر من 10 آلاف دينار وفي أيام أخرى لا تصل الى ألفي دينار.

وعن أنواع الأصباغ التي يستخدمها الصباغون الحريصون على كسب الزبائن يقول احد الصباغين: "تعد الأصباغ السورية علامة (كولا) أكثر أصباغ الأحذية انتشاراً وجودة.

أما الملمعات فهي صينية المنشأ وتكون عل نوعين جيد ورد ويمكن التفريق بينهما عن طريق سعرهما، في حين صبغ الأساس فهو ايطالي المنشأ ويتم من خلاله تغيير لون الأحذية الى اللون الأسود أو تثبيت الحذاء الأسود بطلائه به وفي الحالة الأولى يتقاضى أجرا قدره 1500 دينار وفي الثانية 1000 دينار".

نظرة قاصرة وأمل بالحياة

ربما كانت حركة مد القدمين لصباغ الأحذية، أو مجيئه الينا لأخذ أحذيتنا، هي السبب الرئيس لاعتقادنا بأنها مهنة تمس كرامة الإنسان، إذ انحصر عملها بالمحتاجين والفقراء والأطفال. لكنها أصبحت الآن مهنة يزاولها الكثير، كباراً كانوا أم صغاراً، الشباب في المحافظات أو من سكان بغداد، حتى أصبح منظرهم وهم يفترشون الأرصفة شائعاً ومألوفاً.

إلا إن واقع العاملين في هذا المجال يعكس ثقة عالية بالنفس وإيمانا بالحياة الحرة الكريمة متحدين شظف العيش بالطرق المشروعة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 30/تموز/2009 - 7/شعبان/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م