تسرب الأطفال واليافعين من المدارس

ملاحظات ومقترحات حول الحد من تفشي الأمية في المجتمع العراقي

حميد الحريزي

تدور أحاديث وتنشر بعض البحوث والدراسات وتقيم بعض المنظمات المجتمع المدني ورش عمل وندوات وحوارات حول أسباب تفشي الأمية في المجتمع العراقي وخصوصا بين الجيل الناشئ الجديد من الأطفال العراقيين بعمر الدراسة ولكن غالبا ما يتم إغفال مسالة هامة من هذا الأمر إلا وهي التأشير الصحيح على الطبقة أو الفئة الاجتماعية التي تحظى بالنسبة الكبرى إن لم تكن الأولى والأخيرة في ظاهرة تفشي الأمية بين الصغار والكبار لأسباب تقع الأسباب الاقتصادية في مقدمتها وتأتي ظاهرة الجهل والتخلف والمرض في الدرجة الثانية كسبب للامية ونتيجة أيضا لما ذكر اولا، ففي الوقت الذي تتحدث الكثير من الإحصائيات الموثقة إلى النسبة العالية من البطالة حيث يعيش أكثر من 20% من المجتمع العراقي تحت خط الفقر، وأظهرت بعض التحقيقات للفضائيات إن هناك أعدادا غير يسيرة من العراقيين يعيشون في بيوت من الصفيح ويقتاتون على فضلات الطبقات الميسورة في المدن، علما إن هذه العوائل غالبا ما تكون نسبة الإنجاب من الأطفال البنات والبنين لأسباب مختلفة.

وهناك تساؤل هل إن من لا يحصل على قوت يومه يمكن أن يكون همه تعليم أطفاله.

فنحن نرى إن أهم أسباب تفشي الأمية واتساع ظاهرة التسرب من المدارس هي:-

اولا:- حالة العوز والفقر التي تهيمن على نسبة عالية من العوائل العراقية نتيجة البطالة وانعدام فرص العمل بالإضافة إلى تدني رواتب الفئات الدنيا من موظفي الدولة والنسبة العالية من المتقاعدين.

ثانيا:- حالة اللا استقرار والأمن الهش لغالبية المدن والأحياء السكانية مختلفة آلياته والقومية في العراق وخصوصا بعد الاحتلال ولحين التاريخ، مما جعل مسالة تعليم الأطفال أمرا ثانويا مقارنة بالحفاظ على حياتهم وحياة ذويهم.

ثالثا:- تخلف مناهج التعليم واعتمادها أسلوب التلقين المعرفي والتدجين التربوي وإثقال ذاكرة ومزاج الطلبة اليافعين بمفردات و(ومحفوظات) مملة وغير ملائمة لذائقتهم ودرجة استيعابهم العقلية في هذا العمر، ناهيك عن حالة التناقض الكبير بين ما يتعلمه الطفل في محيطه العائلي وبين ما يطلب منه ((حفظه)) وتبنيه بين دفات الكتب المدرسية وخصوصا في دروس التاريخ والتربية الدينية،وحتى في المناهج العلمية الصرفة فهناك بون واسع بين ((حوت البلاعه)) وبين ظاهرة الخسوف والكسوف وأسبابها ومسببابتها.

رابعا:- صحرنة ((رياض)) الأطفال وبنايات المدارس على مختلف مستوياتها، فلا حديقة مدرسية ولا فضاء للعب والتسلية ولإفضاء مفتوح، فغالبا ما تكون الحدائق أتربة تذروها الرياح أو مستنقعات قذرة، والبنايات متهرئة والشبابيك بلا زجاج وتعتبر التدفئة والتبريد ترفا لا يمكن التفكير والمطالبة به، مما يجعل الأطفال ينفرون من المواظبة على الدراسة، بالإضافة إلى النظرة السلبية التي طبعت بها البنايات المدرسية في زمن الدكتاتورية عندما حولتها في كثير من الأحيان إلى مقرات للحزب ((القائد)) وحتى كسجون للمتهربين من الجيش والجيش الشعبي أثناء الحروب القذرة التي شنها الديكتاتور ضد الجيران والأصدقاء وأبناء الوطن.

كما تحولت إلى شكل من أشكال السجون المحصنة الأبواب والشبابيك محاطة بالحرس من كل جانب خضوعا لمتطلبات ألوضع الأمني المتردي بعد التغيير مما يعطيه صفة الثكنة العسكرية وليست رياضا أو مكانا لتلقي العلم والمعرفة ليلاق الخوف الأطفال من البيت والحي والشارع إلى الرياض والمدرسة؟؟!!

خامسا:-سيادة قناعات اللا جدوى من التحصيل الدراسي ونيل لشهادات العلمية في ظل واقع البطالة المزمنة لعدة أجيال من أصحاب الشهادات الدراسية من مختلف الاختصاصات الإنسانية والعلمية ناهيك عن كونها لا تؤهله في امتهان عمل خارج دوائر الدولة يمكن إن يعتاش منه بسبب عدم مراعاة الربط بين التعليم الأكاديمي والحياة العملية، فغالبا ما يشهد الطفل والده أو عمه أو خاله أو أخته وأخيه وقد أصبح تحصيله العلمي مثالا للتندر من قبل أقرانه من الأميين من أصحاب المال والجاه والثروة من الطفيليين والمهربين وتبع السلطان وتجار السوق السوداء خلال الزمن السابق والحالي.

سادسا:- ندرة كبيرة في الكادر التعليمي والتدريسي الكفء علميا والمؤهل تربويا ونفسيا للقيام بهذه المهمة ليقترب من وصف الرسول((كاد المعلم إن يكون رسولا)) وليس المتخلف المتزلف الكسول، ناهيك عن آفة الدروس الخصوصية الذي اختطفت الأساتذة الأكفاء من بين مقاعد تلاميذهم في المدارس الحكومية لتضعهم في خدمة أبناء ذوي المال والجاه لتعليم بناتهم وأبناءهم في دورهم.

ومما تقدم يمكننا إن نجتهد بتقديم وتمني تحقيق المقترحات التالية لمعالجة هذا الموضوع الخطير خصوصا وانه يهم فئات واسعة جدا من الشعب العراقي ومن هذه المقترحات:-

* نرى ضرورة تخصيص منح مالية من الدولة تكون بنسب تصاعدية ابتداء من رياض الأطفال لغاية انتهاء مرحلة الثانوية معتمدا مبدأ الماضية على الدوام اليومي والتفوق الراسي في احتساب أو اقتطاع هذه المنح المالية وبذلك ترفع عن العائلة مصاريف أبنائهم في المدارس ويحفز الطالبات والطلبة في التواصل والدراسة والحرص على عدم استقطاع مبالغ من منحهم جزاء الغياب وبالتشجيع ن ذويهم،ناهيك عن اجتهادهم في الحصول على المكافأة الموعودة للموا ضب والمجتهد المتفوق وتكون بذلك حققنا عدة أهداف مرة واحدة منها مساعدة هذه العوائل وعدم دفعها لزج أبناءها في الأسواق لكسب العيش وحققنا وعودنا الدستورية والإنسانية في مجانية التعليم لتكون حقيقة واقعة وليست وعودا على الورق وشجعنا الطلبة على التواصل والاجتهاد.

* الاهتمام الفائق بالبنايات وخصوصا رياض الأطفال والمدارس بمختلف مستوياتها الأخرى من حيث السعة والجاذبية المعمارية والتأثيث وإلغاء حالة الدوام المزدوج لأكثر من مدرسة في بناية واحده والحرص على اختزال عدد الطلبة في الشعبة الواحدة بما يقارب العدد المقرر علميا وعمليا من قبل خبراء التعليم الناجح في العالم لما كما هو في مدارسنا حيث يزيد عدد الطلاب على أل(50) في الشعبة الواحدة ويمكن في هذا المجال إشراك المنظمات الدولية المختصة ومنظمات المجتمع المدني بالإضافة إلى استنهاض همم ومشاركات عموم الناس في تنظيم آلية عملية للمشاركة في بناء مدارس لابناءهم سواء بالجهد المباشر أو المال على إن تكون محصنة من الفساد المالي والإداري، وهل يصدق عاقل إن أبناء وأطفال العراق يدرسون في بيوت من قصب أو بيوت من طين!!؟؟.

* الاهتمام بتشجير ساحات المدارس والعناية بحدائقها والاهتمام بجمال وانسجام أقسام المدرسة مع الاهتمام بتوفير المياه الصالحة للشرب، وتوفر العدد الكافي من دورات المياه الكافية والصحية في الرياض والمدارس والتخلص من واقعها المقرف حاليا في اغلب المدارس وتحفيز ونوعية الطلبة على العناية والحفاظ عليها.

* الاهتمام الاستثنائي بأعداد مشرفين تربويين من كلا الجنسين يتمتعون بالكفاءة والقدرة والفطنة والحماس ليكونوا بمثابة الجهة الرقابية والتقويمية والإرشادية في تنفيذ المنهج الدراسي والإبداع في تنفيذه والمكلفة برفع التوصيات ملزمة الدراسة والمتابعة من قبل الجهات ذات الشأن في وزارة التعليم والتربية ولا باس بان يكون للمشرفين التربويين ورشات عمل مشتركة لتبادل الخبرة واقتراح الحلول لما تواجهه العملية التعليمية من مشاكل ومعوقات.

* الاهتمام الجاد والفاعل في تطوير وتنوير الكادر التعليمي والتدريسي ونبذ العناصر المتخلفة والكسولة إن لم نقل الفاسدة والمفسدة والمنحرفة كبقايا لثقافة العنف والخضوع السابقة، فلا يمكن أن يكون لمثل هذه النماذج مكان في اخطر مؤسسة تهتم في تعليم وتربية أجيال المستقبل في البلد.

 * تكليف لجان خاصة من خبراء التعليم وعلم النفس والاجتماع من ذوي العقول المتنورة والمنفتحة لوضع مناهج دراسية طاردة لنهج وممارسة التلقين والتزوير والتطييف والتخريف((الملائية)) من المناهج الدراسية وخصوصا في مادة التربية الإسلامية التي نرى أن تستبدل بمادة تدرس تاريخ الأديان السماوية والوضعية في العراق لتنشر ثقافة التسامح واحترام مختلف الأديان والعقائد وترك تدريس وتعليم كل دين للمدارس والجوامع والكنائس والحوزات لكل دين من الأديان وما أكثرها في عراق اليوم فقد تفوق عدد المدارس بعدة مرات ناهيك عن الإذاعات والفضائيات المختصة في العلوم والتربية الدينية.

ومما يجدر بأهمية فائقة بضرورة الاهتمام بمادة التاريخ ليكون مادة للتحليل والتعليل للأحداث بشكل موضوعي وعلمي وواقعي رصين وليس تاريخا للحكام والسلاطين والطوائف والأعراق، فلو كتب التاريخ بشكل صادق وعلمي وأمين لتخلصنا من القدر الأكبر من الشرور والبثور والأمراض التي ابتلي بها مجتمعنا.

* خلق علاقة حية حميمية فاعلة بين إدارات المدارس وعوائل وأولياء أمور الطلبة في مختلف المراحل الدراسية من خلال الزيارات المتبادلة.

* الاهتمام بدروس الفنون والموسيقى والرياضة والآداب لامتصاص جفاف الدروس العلمية الصرفة وتطوير وتنمية واكتشاف قدرات الطلبة في مجال الفنون المختلفة وقدرتهم الأدبية والرياضية كذلك إعادة الحياة للسفرات المدرسية الجماعية والمهرجانات والاحتفالات التنافسية الأدبية والفنية والعلمية بين الطلبة أفرادا ومجاميع في المدينة الواحدة وفي المحافظة الواحدة والمدن والمحافظات المختلفة.

* نبذ نهج عزل العقول ذات الذكاء الخاص والقدرات المتميزة عن بقية زملائهم في مختلف المراحل ليكونون مثار منافسة ونماذج يقتدى بها لزملائهم وعدم حرمان زملائهم من قدراتهم في ما يسمى بالمدارس النموذجية وما شابه والتي غالبا ما تكون حكرا على بنات وأبناء ذوي المال والجاه دون سواهم، وهذا لا يتعارض مع وجود مناهج وبرامج خاصة كالتسريع واختزال المراحل الدراسية لمثل هذه القدرات من اجل رعايتها وصقل مواهبها.

* الاختيار المبني على غزارة التجربة وحسن الإدارة والكفاءة والنزاهة في مختلف مواقع المسؤولية في وزارة التربية والتعليم وباليتها تكون وزارة التعليم اولا والتربية ثانيا، من الوزير والمدراء العامين ومديري التربية ومدراء المدارس لا أن تكون المؤهلات:- لحية مطلقة وجبهة مختومة وأصابع مختمة بعد إن كانت البدلة الزيتونية وحفظ وترديد أقوال القائد الضرورة هي المؤهلات المطلوبة.

* اعتماد وسائل التقنية الحديثة في التعليم وتدريب الطلبة على استخدامها والاستفادة منها وخصوصا الحاسبات الالكترونية والانترنيت ومن المؤسف إن نقول إن اغلب معلمينا ومدرسينا الأجلاء لا يجيدون استخدامها مما أدى أن يلف الغبار والإهمال الكثير من أجهزة الحاسوب التي زودت بها المدارس دون أن يراها أو يستفاد منها الطالب، مما يستدعي العمل على محو الأمية الالكترونية بين صفوف الكوادر التعليمية والتدريسية من خلال دورات خاصة خصوصا أثناء العطلة الصيفية.

 * إعادة الحياة وتفعيل وتطوير مديرية خاصة لوسائل الإيضاح سواء بشكل مركزي وزاري أو في مديريات التربية في المحافظات لما لوسائل الإيضاح من أهمية كبيرة في ترسيخ المادة العلمية في ذهن الطالب،ولا يفوتنا التذكر بأهمية أن يكون الطالب مقتنع أو مدرك لمدى علاقة ما يدرس بعالم الواقع المعاش، ماهية اللغة العربية الفصحى ولماذا علم النحو، ما معنى رموز الرياضيات، معاني مفردات الدرس، أهمية تعلم لغات غير اللغة الأم...الخ

إن ملاحظاتنا المختصرة هذه بخصوص التعليم لصغار السن واليافعين من البنات والبنين في رياض الأطفال والمدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية أما بالنسبة لكبار السن فن له حديث آخر. كما إننا نود أن نشير إلى إن كل فقرة مما اشرنا إليه أو عجزنا عن لمسه أو اغفلناه أو جهلناه هو بحاجة إلى دراسة خاصة مفصلة يشارك فيها كل ذوي الشأن من الاخصائين في مختلف العلوم الإنسانية والعلمية الصرفة ونراها مهمة غي قابلة للتأجيل لأننا نبني أساس لمستقبل شعبنا وبلدنا من خلال البناء العلمي السليم لجيل سيكون هو القائد والموجه والباني في المستقبل وسوف لن يغفر لنا أخطائنا وتكاسلنا وتقصيرنا في ترصين وسلامة بناءه العلمي والفكري والثقافي والوطني.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 30/تموز/2009 - 7/شعبان/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م