لقد حكم العراق، على مدى نيف وثلاثين عاما، حزبا واحدا، انفرد
بالسلطة من دون تفويض من قبل الشعب، وكان يتخذ القرارات المصيرية من
دون مشورة، فكان يمارس القتل وسفك الدماء ويشن الحروب الداخلية ومع
الجيران من دون العودة الى راي الشعب العراقي، ولذلك ورط العراق
والعراقيين بسياسات عبثية انتهت الى (احتلال) البلد وانزلاقه في
الازمات المستعصية التي يمر بها اليوم.
اما اليوم فان عدد الاحزاب والقوى السياسية التي تشارك في الحكومة
العراقية وبقية مؤسسات الدولة العراقية، يتجاوز العشرين، واكثر، ما
يعني ان هناك تغييرا حقيقيا يشهده العراق على صعيد النظام السياسي،
وهذا سببه لان النظام السياسي الجديد يقوم على اساس الاحتكام الى صندوق
الاقتراع، وليس على قاعدة ما كان يسميه النظام الشمولي البائد بـ
(الشرعية الثورية) والتي هي في حقيقة امرها (شرعية) اللصوصية المسلحة
التي تمثلها الانقلابات العسكرية.
كما ان ذلك يعود الى سبب اعتماد النظام السياسي الجديد على الشراكة
الحقيقية بين مختلف مكونات وشرائح وقوى الشعب العراقي من دون اقصاء احد
او التجاوز على حقوق احد، طبعا من دون ان يعني ذلك ان ما هو موجود
اليوم في العراق يمثل القمة ونهاية ما يصبو اليه العراقيون، ابدا، اذ
لا زال امامنا الكثير جدا من العمل من اجل ترميم العملية السياسية
وتحسين اداء القوى السياسية العراقية، ولكننا اذا اخذنا بنظر الاعتبار
الظروف الصعبة والتحديات الخطيرة التي تواجه العراق، فانا اعتقد بان ما
انجز لحد الان يمثل انجازا كبيرا بلا شك، لا يمكن مقارنته بالعقود
الاربعة من الزمن التي حكم فيها نظام الطاغية الذليل صدام حسين.
ان العراق يدفع الان ثمن التغيير الحقيقي الذي يشهده على صعيد
النظام السياسي، ولو كان التغيير سطحيا لم يمس الجذور، لمر الظرف من
دون عقبات، ولباركه الجميع من دون مشاكل، كما يحصل عادة عند كل انقلاب
عسكري كان يحدث في العراق او في اي بلد عربي آخر.
القوى السياسية والعشائرية ومشروع المصالحة
الوطنية
ان هذه القوى التي يستخف بها البعض، هي التي شكلت في وقت من الاوقات
الحواظن الدافئة للتنظيمات الارهابية وعلى راسها (القاعدة) وبسبب ذلك
ظلت مناطقها مازومة امنيا بدرجة كبيرة، ولكنها عندما انخرطت في مشروع
المصالحة انقلبت على التنظيمات الارهابية فجففت منابعها وقاتلتها
وطردتها من مناطقها، لتستقر فيها الاوضاع الامنية الى درجة كبيرة، وان
هذه القوى هي الان في السلطة المحلية في محافظاتها بعد ان منحها الناخب
ثقته، ما يشير الى مدى اهميتها واتساع حضورها في الساحة الاجتماعية
والسياسية، كما ان ذلك مؤشر واضح على ضخامة المنجز الذي حققته لابناء
مناطقها، والا لما حازت على ثقة الناخب وعلى حساب قوى سياسية عريقة
تشترك في العملية السياسية وفي السلطة.
ان الذي حصل في العديد من محافظات العراق، خاصة في المناطق التي
كانت تسمى بالساخنة، لم يكن مجرد تبادل مواقع ابدا، فلقد وصلت الى
السلطة المحلية قوى عشائرية وسياسية لم تكن مشاركة في العملية السياسية،
بل ان الكثير منها كانت تحمل السلاح وتعارض حتى عملية التغيير، كما هو
الحال اليوم في الموصل والرمادي وصلاح الدين وديالى وغيرها من المناطق،
وان هذه القوى ما كانت لتحقق كل ذلك الا بعد ان غيرت من مواقفها
ومتبنياتها فانقلبت على الماضي التعيس وآمنت بالعملية السياسية القائمة
على اساس الاحتكام الى صندوق الاقتراع، وراحت تتطلع الى المستقبل
الواعد بعد ان ظلت لمدة اسيرة اوهام الماضي، وبعد ان قاتلت مجموعات
العنف والارهاب وطردتها من مناطقها، سواء كانت من التنظيمات الارهابية
او من ايتام النظام البائد.
ان كل ذلك يعني ان ما انجز خلال السنوات الثلاث الماضية في اطار
مشروع المصالحة الوطنية يعتبر امر مهم وشئ ملموس وجدي ولم يكن شيئا
ثانويا او غير ذي جدوى، ابدا.
عودة البعثيين الى الحياة السياسية
لقد عاد الكثير منهم بالفعل الى الحياة السياسية، وهذا الامر لم يكن
محل خلاف بين القوى السياسية، فمنذ البداية كان قرار الجميع تقريبا هو
ان يسمح، بضم الياء، للبعثيين ممن لم تتلطخ ايديهم بدماء العراقيين،
بالعودة الى الحياة السياسية شريطة الايمان بعملية التغيير وبالعملية
السياسية الجارية، وهذا ما حصل بالفعل، ففي الموصل، مثلا، انخرطت
الكثير من هذه العناصر في العملية السياسية، بل ان الكثير منها فاز
بمقاعد في مجلس المحافظة، وهو اليوم جزء من العملية السياسية، وكذا
الحال في الرمادي وتكريت وديالى وحتى العاصمة بغداد، وغيرها من المناطق،
وكل هذا قائم على اساس ايمان العراقيين الراسخ بان العراق لكل
العراقيين فلا يجوز اقصاء او استثناء احد من حق المشاركة في الشان
العام، شريطة ان لا يكون متورطا بدم العراقيين، وان يؤمن بعملية
التغيير.
اما من بقي الى الان خارج اطار العملية السياسية مصرا على حمل
السلاح بوجه العراقيين، فهؤلاء ليسوا سياسيين، ولا ينوون الانخراط في
العملية السياسية، بل ان هؤلاء قتلة ومجرمون بينهم وبين الشعب العراق
القضاء الذي سينزل بحقهم اقسى العقوبة، لاسيما وقد ازيل المبرر الذي
كانت تتستر به مثل هذه العناصر لاستمرارها في حمل السلاح بوجه
العراقيين، واقصد به انسحاب القوات الاجنبية من المدن، ما يشيربشكل
قاطع الى ان هؤلاء يهدفون الى تدمير العملية السياسية وليس الى ترشيدها
او تطويرها، وانهم يبذلون قصارى جهدهم من اجل اعادة عقارب الزمن
العراقي الى الوراء، وهم يحلمون بعودة سلطة الحزب الواحد الى العراق،
فتعود الحروب العبثية، وسياسة القتل والتدمير والابادة المنظمة للشعب
العراقي ولخيرات البلاد.
انهم يسخرون القتل كوسيلة لابتزاز الحكومة للانتباه اليهم،
لمحاورتهم والحاقهم بمشروع المصالحة، الا انهم غير مشمولين بالمشروع
البتة، فالمصالحة بين فرقاء يتفقون في الاصول ويختلفون في التفاصيل،
اما هؤلاء فيختلف معهم العراقيون في كل شئ، جملة وتفصيلا، فالقتل
والديمقراطية على طرفي نقيض لا يجتمعان ابدا، وهما يسيران في خطين
متوازيين لا يمكن ان يلتقيا مهما امتدا.
ان الذين يتحدثون اليوم عن عدم مشروعية العملية السياسية لانها
انطلقت في ظل (الاحتلال) يتناسون ان الدولة العراقية الحديثة اسسها
الاحتلال البريطاني في عام (1921) بل ان كل ما يسمى بانظمة الاستقلال
في البلاد العربية تاسست في ظل احتلالات اجنبية اما بريطانية او فرنسية
او ايطالية، او احتلالات مشتركة، وان الذين يتحججون بعدم جدوائية مشروع
المصالحة الوطنية، لانهم لم ينخرطوا فيها او لان هناك قوى يسمونها
سياسية لازالت خارج العملية السياسية، يتناسون انهم ظلوا يعيشون في ظل
نظام سياسي شمولي اعتمد نظرية الحزب الواحد قرابة (35) عاما من دون ان
نسمعهم يتحدثون عن المصالحة الوطنية او الشراكة الحقيقية في السلطة او
الديمقراطية والانتخابات، وكم اتمنى ان يدلني احدهم على موقف واحد يشير
الى معارضته لكل ذلك ايام النظام البائد، انهم يتصورون انفسهم منظرون
للمرحلة الجديدة، وهم في حقيقة امرهم، مبررون للاستبداد والديكتاتورية
فيما مضى ومبررون للقتل والتدمير اليوم.
* مدير مركز الاعلام العراقي في واشنطن |