من يبحث في مشكلات العالم وأزماته يجد الكثير منها تمتد في جذورها
وأصولها الى أرض فلسطين، هذه الحقيقة تجعل المهتم بمعالجة أسباب المحن
في العالم ينظر مليّا الى جذور تلك المحن ويبحث في سبل علاجها. أثبتت
التجارب بأن علاج الأعراض لا يفيد ولا ينفع، ومن يطمح في القضاء على
العلل المستشرية عليه أن يعالج أسبابها وليس أعراضها. العلل التي يعاني
منها العالم المعاصر كثيرة ومتشعبة وكثير منها تأصلت وانطلقت بسبب
المأساة الفلسطينية التي طال أمدها وأشتد ألمها وتعمق بأسها.
العالم يعاني من آلام وهواجس كثيرة ومتشابكة منها: الحروب المندلعة
والتي هي على حافة الإندلاع والتي تنذر بكوارث ومحن إنسانية... حالة
عدم الأمان والشعور بعدم الإستقرار عند الكثير من الناس وفي مناطق
كثيرة من العالم، وهذه الحالة وليدة مظاهر التطرف العنصري والديني
والطائفي التي قد تقود الى ظواهر سياسية وإجتماعية مرضية كثيرة كظاهرة
"الإرهاب" مثلا أو الى تحفيز النعرات والنزعات التي من شأنها تكريس
الحقد والكراهية والإنانية عند البشر.... الأزمات المالية والإقتصادية
التي ضربت وتضرب أرجاء المعمورة... التشرد والفقر والحرمان واليأس
والقنوط عند الكثيرين من أبناء الشعوب المضطهدة... كل هذه الأعراض
والظواهر وغيرها قد يكون لها جذور وأسباب تمتد بعيدا الى القضية
الفلسطينية. فإن قيل في الأمثال " كل الطرق تؤدي الى روما..." فربما
يصح القول هنا بأن " كل مشكلات العالم تمر في أرض فلسطين"...!
الحروب: لو تمعنا في سرّ تورط الأمريكيين في حروبهم في كل من العراق
وأفغانستان وسرّ وقوعهم المرير في مستنقعات تلك الحروب التي لا يعرفون
طريق الخلاص منها والتي كبدتهم الكثير من الخسائر المادية والبشرية،
لوجدنا بأن قضية فلسطين هي وراء تلك الحروب بشكل مباشر أو غير مباشر.
فلو سلك الأمريكيون سلوكا متوازنا وحكيما ضمن منهج العدل والإنصاف إزاء
مشكلة فلسطين لما حصلت هذه الحروب ولما تحطمت أبراج أمريكا العالية.
مشكلة فلسطين ليست فقط وراء نشوء حركات التطرف التي ضربت الأمريكان في
العمق، بل إنها السر المعلوم في إطالة زمن هذه الحروب إذ أصبحت
إفغانستان وكذلك العراق ساحات لتصفية الحسابات القديمة المتراكمة بين
الأمريكان والمتربصين فيهم. ستبقى هذه الحروب مستمرة طالما بقت قضية
فلسطين معلقة وغير محسومة، ومن يريد أن يعالج هذا المأزق فعليه معالجة
الأسباب والمعادلة واضحة ولا تقبل التشكيك...
الأزمات المالية والإقتصادية: ضربت العالم في نهاية العام المنصرم
أزمة مالية حادة أعقبها كساد إقتصادي جارف لم يسلم منه أي ركن من أركان
المعمورة. فرغم عدم الوضوح في أسباب هذه الأزمة وحيثياتها فأن قليل من
المحللين السياسيين والإقتصاديين"مع الأسف" قد ربط بين الحروب التي
تغوص فيها أمريكا في إفغانستان والعراق وبين تداعياتها وتأثيراتها على
الإقتصاد الأمريكي ونشوء هذه الأزمة. حروب الإستنزاف الطويلة هذه والتي
صاحبتها خسائر مادية وبشرية كبيرة لعبت دورا كبيرا في تباطؤ الإقتصاد
الأمريكي الذي أدى الى فقدان الكثيرين لأعمالهم ومصادر عيشهم وهذا أثر
بدوره على أسعار العقارات في هذا البلد مما أدى الى سقوط البنك العملاق"
ليمان بروذورز" والذي جرّ معه مليارات الدولارات من ودائع العالم وأثار
أزمة مالية حادة تشبه الى حد ما الأزمة المالية التأريخية التي حصلت
عام 1929م.
فلو سلمنا بتأثير هذه الحروب الإستنزافية الطويلة على الإقتصاد
الأمريكي فأنه من المعلوم عند ذلك معرفة صلة الربط بين هذه الأزمات
وموضوع بحثنا. أموال العالم التي إختفت في الأرض الأمريكية بحجج إفلاس
بعض مصارفها أو كساد في أسواق عقاراتها وبعض مؤسساتها، لم ولن تغيّر من
طبيعة الحقيقة التي تشير الى تحوّل بعض المؤسسات الأمريكية الى ثقوب
سوداء إبتلعت أموال العالم لتعويض الخسائر ومنع الإنهيار العام.
إلاّ ان المراقب للأمور لا يجد فيما حصل إلاّ معالجة طفيفة للأعراض
دون الأسباب، وأن الأزمات المالية والإقتصادية يجب أن تعالج من الجذور.
حتى لو إستقرت الأوضاع الإقتصادية والمالية فإن إستقرارها سيكون مؤقت
طالما بقيت الحروب وطالما إستمرت مصادر الإستنزاف.
عدم الإستقرارالإجتماعي والسياسي: الشعور بالظلم وعدم الإنصاف الذي
إتسمت به السياسات الأمريكية السابقة إزاء القضية الفلسطينية وعلى مر
الزمن أدى الى حالة من الإحباط في نفوس الناس ليس فقط عند الفلسطينيين
والعرب والمسلمين فحسب بل في نفوس الشرفاء والمنصفين من أبناء
المعمورة.
هذا الظلم أجج نار الحقد في النفوس وأدى الى التطرف في التصرف
والتفكير الى درجة أن نشأت حركات سياسية متطرفة قد تعتمد على أسلوب "
الإرهاب" كوسيلة لإعلان السخط وكردّة فعل سيئة لفعل سيء. هذا التطرف في
المنهج والتفكير أدى الى توسيع الهوّة بين الحضارات والأديان والى
تقليص مدى التحمل والإندماج بين الشعوب المتباينة مما ينذر بنشوء
تصرفات ذات طابع عنصري أو ديني أو طائفي بين أبناء الشعب الواحد في
البلد الواحد. هذا الأمر خلق حالة من التوتر والكراهية المتبادلة وعدم
الثقة بين بعض الأقليات وبعض شعوب العالم الغربي على سبيل المثال وليس
الحصر.
فوق كل هذا وذاك فأن الشعوب التي تشعر بالإضطهاد ربما تنزلق في
هاوية تأييد الحركات السياسية المتطرفة تعبيرا عن إمتعاضها وسخطها
وغضبها، وهذا ما يفسر إختيار الشعوب العربية والإسلامية للأحزاب
الدينية دون غيرها من الأحزاب الوطنية والعلمانية الأخرى في كثير من
الإنتخابات الديمقراطية. فالغرب المتحمس للديمقراطية في العالم العربي
والإسلامي عليه أن ينصف هذه الشعوب قبل "دمقرطتها"، لأن نتائج
الديمقراطية في ظل الظروف الحالية ستكون وخيمة على الغرب قبل غيره!
أخطار المستقبل: بقاء الوضع على حاله ينذر بمآسي وإضطرابات قادمة قد
لا يدرك أحد مداها وحدودها. الإيرانيون في حالة تطوير مضطرد لترسانتهم
العسكرية وربما النووية أن بقت الأوضاع طائفة وعلى حالها، وهذا يعتبر
تهديدا مباشرا للإسرائليين والأمريكيين على حد سواء. الإسرائيليون
والأمريكيون لا يعرفون المخرج الصحيح والمناسب من الخطر الإيراني
المحدق بهم، فإن ضربوا إيران عسكريا ربما تحصل أزمة إقتصادية خانقة قد
تكون قاتلة لإقتصاديات العالم بسبب الإرتفاع الحاد الذي سيحصل في أسعار
النفط العالمية وفي ظل ظروف إقتصادية صعبة ومعقدة أصلا.
كما أن القوات الأمريكية المتواجدة في العراق ستكون تحت رحمة
الضربات الموجعة التي ستتلقاها من قبل المؤيدين لإيران في العراق من
جهة ومن جهة أخرى فأن الحكومة العراقية الحالية التي تربطها علاقات
متينة مع إيران لا تتقبل بأي حال من الأحوال أي تصعيد عسكري بين
الأمريكيين والإيرانيين مما قد يؤثر سلبا على طبيعة العلاقة بينها وبين
الإدارة الأمريكية. وفوق كل هذا وذاك فالحرب على إيران تعني فتح جبهة
حربية جديدة لا تقوى أمريكا على إدارتها في ظل الإقتصاد المتهاوي
والملل الشعبي من الحروب ومآسيها وتذمر الجنود الأمريكان وتعبهم المزمن
المستمر من الحروب التي ورطهم بوش الصغير فيها.
هذا التهديد القادم من إيران سيدخل حيز التنفيذ إن عاجلا أم آجلا
طالما بقيت القضية الفلسطينية في مكانها دون حراك. بل ستنشط الحركات
التحررية الشعبية كحركة "حزب الله" وحركة "حماس" و"الجهاد الإسلامي"
وغيرها وسيكون لها مد شعبي عارم وتأييد منقطع النظير بسبب ثقة الشعوب
بها وبإنجازاتها والتي أثبتت قدرتها وثباتها على التصدي والمنازلة
خلافا للجيوش والحكومات! هذه الحركات النشطة قد تمتلك في المستقبل
أسلحة متطورة وربما فتاكة وقد لا تتورع من إستخدامها إن تعرضت لهجمات
الإسرائليين الشرسة!
التشنج السياسي الأمريكي - الروسي والخلافات الأوربية - الروسية في
شأن الحرب الروسية- الجورجية ومخلفاتها وتأثيراتها وكذلك الخلافات
الأخرى بشأن نصب الدرع الصاروخي الأمريكي في بولندا وجمهورية التشيك،
كلّها قد تتبلور وتتطورالى خلافات حادة ونزاعات قد تجر العالم الى أيام
الحرب الباردة. هذا التحوّل، إن حصل، ربما يجعل إيران تخرج من عنق
الزجاجة وتمضي قدما في مشروعها النووي حيث تحتمي تحت المظلة الروسية إن
قرر الغرب ضربها أو إجتياحها.
هذا من جانب ومن جانب آخر فقد تقيم روسيا منصات للصواريخ البالستية
في كل من سوريا وجنوب لبنان مما يجعل الإسرائيليين تحت رحمة هذه
الصواريخ ويجعل القوات الأمريكية في العراق بين كفتي كماشة. هذه
السيناريوهات وإن كانت نظرية في إمكانية حصولها فإنها تبقى محتملة
الوقوع في ظل ظروف عالمية متأزمة وصعبة.
هنا يتساءل المتابع للأحداث مع نفسه ويقول: هل العقول الأمريكية
قاصرة عن تحليل الموقف ومعرفة الحقائق من أجل معرفة أسباب مشكلاتها
وجذور مآزقها وويلاتها؟ هل أمريكا غير مدركة لمعنى إهمال حق
الفلسطينيين في أن يعيشوا بعزة وكرامة كأي شعب من شعوب العالم، وهل
تدرك ما قد ينتج جراء إهمال هذا الحق المشروع في عالم جديد يدعي
الأخلاق والتطور والتحضر والإنسانية؟. هل ستبقى أمريكا غير قادرة على
تحريك ساكن وغير مكترثة بتصحيح أخطائها وتعديل مسارها المنحرف عبر
السنين أم إنها تنتظر أن يصلها الطوفان الى عقر دارها حتى يصبح كل شيء
عائم بين الماء والسماء...!؟ أم ان القدر قد كتب على هذه الحضارة ان
تنتهي على أبواب فلسطين كما كتبت نهايات حضارات الأولين...؟ أو أن
الأمريكيين مغلوبون على أمرهم وزمام أمورهم ليس في أيديهم " فمنهم من
قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا " !؟ عن هذه الأسئلة
المصيرية ننتظر الجواب من السيد أوباما وهو رجل قانون وأكاديمي ويتحسس
لمواقع الألم ومنتبه لتفاصيل المعضلة، فهل سيستطيع هذا الرجل الهجين أن
يهجّن السياسة الأمريكية ويقلب التأريخ!؟. |