إعلام صوت إسرائيل وإعلام العروبة

توفيق ابو شومر

دائما كنتُ أتساءل: ما سبب شعبية إذاعة إسرائيل الناطقة بالعربية في الوسط الفلسطيني والعربي أيضا؟ ولماذا كان كثيرون يبحثون عنها عندما تضاءل إرسالها، وأصبحت لا تصل بسهولة إلى الفلسطينيين القريبين، خلال العام الماضي؟

ولماذا يتناقل كثيرون الأخبار التي تبثها، باعتبارها الأخبار الصحيحة؟

هل يعود السببُ إلى مصداقيته؟

وهل يرجع السبب إلى فهم الإعلام الإسرائيلي لحاجات الجمهور الفلسطيني والعربي من الأخبار والبرامج؟

وهل يعود إلى الخبرة الطويلة لهذا الإعلام في خصائص المجتمع الفلسطيني والعربي، لأن كثيرا من مسؤوليه كانوا يعيشون في الدول العربية؟

أم أنه يرجع إلى أن ما ينقله هذا الإعلام، يجيء دائما من مصادر موثوقة؟

وهل يعود إلى أن هذا الإعلام هو جزءٌ من هيكلية المجتمع الإسرائيلي الذي ما يزال يُثير إعجاب كثيرين، وعلى رأسهم أمة العرب؟

أم أن السبب يرجع إلى أن هذا الإعلام هو نتاج جهدٍ جماعي، يشترك فيه خبراء ومخططون وساسة؟

وهل للهيكلية الإعلامية في إذاعة إسرائيل الناطقة بالعربية هي السبب في شعبية هذا الإعلام؟

أم أن السبب يعود إلى ضعف الإعلام العربي والفلسطيني وقصر باعه؟

أم أن السبب يرجع إلى ديكتاتورية الأنظمة العربية، وبالتالي ديكتاتورية إعلامها؟

أم أن السبب يعود إلى أن معظم الإعلام الفلسطيني والعربي إعلامٌ مُضلِّل بكسر اللام وفتحها أيضا؟

وهل يعود السببُ إلى أن إعلامنا الفلسطيني والعربي يدخل في إطار الإعلام الحزبي الفئوي، الذي يسعى لتمجيد الأحزاب حتى ولو كان ذلك على حساب الوطن؟

أم أن السبب يعود إلى أن كثيرا من هياكل الإعلام الفلسطيني والعربي أيضا هي هيكليات بعيدة عن الإعلام، احتلته نخبة من المغامرين،كما يحتل الجنود ثكنة عسكريا؟

أم أن السبب لا يعود إلى الإعلام، بل يعود إلى الجمهور الفلسطيني والعربي الذي سئم إعلامه السلطوي، إعلام سوق عكاظ العربي؟

حاولت في دورة إعلامية أن أعثر على بعض إجابات هذه الأسئلة الخطيرة والتي يهرب من مواجهتها كثيرون خوف اتهامهم بأنهم ليسوا وطنيين، بل هم مشككون في [ إنجازات ] بلدانهم.

فقمت في هذه الدورة الإعلامية بتكليف المشاركين في الدورة بمتابعة برامج هذه الإذاعة إذاعة صوت إسرائيل الناطقة بالعربية وقسمت المتدربين إلى مجموعات لرصد كل برامج هذه الإذاعة، الإخبارية، والمسلسلات والبرامج والفواصل الغنائية والترفيهية.

فقد كانت حصيلة الجهود في المجال الإخباري هي :

تُجيد إذاعة إسرائيل تقسيم نشرات أخبارها وفق الزمن.

تُحسن ترتيب الأخبار في نشراتها وفق أهميتها.

تجيد موجز النشرات، فتضع رؤوس أخبار أسميتها (المصيدة) الإخبارية..

تعمد إلى الإثارة والتشويق بإذاعة أخبار هي في العادة شائعات وليست أخبارا.

وقد أشارت نتائج الدراسة بأن الإذاعة تعلم نوع الجمهور المستهدف في كل نشرة من النشرات.

ففي نشرة الساعة السادسة والنصف صباحا تكون النشرة موجهة لطبقة العمال الذين كانوا يستعدون للسفر إلى أماكن عملهم داخل الخط الخضر في إسرائيل.

أما نشرة أحداث الظهيرة في الثانية عشرة والنصف فهي موجهة إلى الموظفين والجمهور الآخر غير العاملين، أما نشرة السادسة والنصف مساء فهي نشرة موسعة للجميع.

ومن الأمثلة على ( المصيدة الإخبارية) التي تعتمدها إذاعة صوت إسرائيل باللغة العربية.

أنها أذاعت يوما في موجز النشرة في الساعة السادسة والنصف صباحا بأن إسرائيل سمحت للعمال بالدخول، وكان العمال قد منعوا من الدخول بسبب الأعياد وبسبب عملية فدائية مدة أربعين يوما، وكانوا ينتظرون بفارغ الصبر هذا الخبر.

وعندما فصلت النشرة أرجأت تفصيل الخبر إلى آخر النشرة حتى تضمن سماع الجميع للنشرة بكاملها، وحينئذٍ مررت الإذاعة شائعة وردت في منشور حزبي، يعلن تمرده على القيادة.

وعندما فصلت الخبر أحسّ العمال بالإحباط لأن تفصيل الخبر :

" سمحت إسرائيل بدخول العمال ممن تتجاوز أعمارهم سن الثلاثين، ومن المتزوجين ولهم أبناء... وكان عدد هؤلاء قليلا جدا !

كما أن الإذاعة ظلت تُحسن استخدام حالة الطقس المتوقعة كشبكة صيد للسامعين الفلسطينيين من فئة الصيادين والمزارعين وغيرهم، لأن النشرة الجوية كانت وما تزال دقيقة وصادقة، في حين أن معظم الإذاعات العربية ما تزال حتى اليوم لا تجيد التنبؤات الجوية.

وإذا أضفنا إلى ذلك أن الإذاعة نفسها كانت تقوم وما تزال ببث أغاني أم كلثوم التراثية ذات الجودة العالية مساء قبل نشرة الأخبار المسائية لجذب السامعين.

أما عن البرامج فهي أيضا برامج موجهة تمس حاجات الجماهير العربية والفلسطينية، فقد كانت هناك برامج مطلوبة ومرغوبة مثل برنامج (مع المزارع) والذي ألغته الإذاعة مؤخرا لسبب كان في البداية غير معروف لأن البرنامج ناجح، ولكن اللغز قد حُلَّ، بعد أن أدخلتُ إسرائيل قطاع الزراعة في مجالها الأمني فغدا سرا من الأسرار، يحظر نشره وتوزيعه، حتى لا يبقى لها منافس في المنطقة كلها، في هذا المجال.

وما أكثر الأمثلة على برامجها، فهي تملك أرشيفا نادرا لكل الأغاني القديمة لكل المطربين والفنانين العرب وأرشيفا لكل الحوارات حتى المكالمات بين الرؤساء العرب أنفسهم، وتحتوي مكتبتها على تسجيلات نادرة حتى لقارئي القرآن الكريم البارزين، وهذا الأرشيف النادر منحها القوة والسطوة الإعلامية التي خولتها امتلاك ناصية الشارع الفلسطيني والعربي.

وهناك برامج الحوارات المفتوحة والصريحة.

أما عن التمثيليات والمسلسلات، فقد كانت الإذاعة بارعة في هذا المجال، وكان هناك برنامج مشهور ظلَّ يجتذب السامعين ويأسرهم وهو، برنامج من ملفات القضاء، فقد كانت لغته العربية لغة سليمة وواضحة، وكانت أحداثه مشوقة، وهو مسلسلٌ مشحون بالإثارة يشتمل على قصة جريمة مملوءة بالألغاز.

تلك كانت بعض الاستنتاجات، التي لم يُفلح الإعلامُ الفلسطيني وبعض الإعلام العربي في محاكاتها والاستفادة من هذه التجربة الإعلامية.

وظلّ الفلسطينيون والعرب يستمتعون بمتابعة برامج صوت إسرائيل ( سرا) ويلعنون صوت إسرائيل في الخطابات والتعليقات والمقابلات العلنية باعتباره صوت الإمبريالية والصهيونية !

وما يزال الإعلام الفلسطيني والعربي يخوض حربا غير معلنة مع صوت إسرائيل حتى اليوم، فهو مستمرٌ في عادة اللطم والصراخ والعويل وشق الجيوب صارخا كل يوم وليلة : "أن الإعلام الإسرائيلي إعلامٌ مضلل، لايذكر إلا الأكاذيب، ولا يورد الحقائق، ومهمته الرئيسة هي إثارة الجماهير العربية وتمزيق الروابط العربية العربية، والعربية الفلسطينية، والعربية الدولية، بدون أن يُقدم على خطوات عملية وأبرزها :

احترام الجمهور العربي والفلسطيني، ومخاطبة الجماهير باعتبارها جماهير واعية قادرة على اكتشاف الزيف، وليس قطيعا من المتخلفين والجاهلين.

إيراد الحقائق المجردة، عند تقديم الأخبار، حتى وإن كانت لا تعجب البلاط الحاكم، الرئاسي والملكي والحزبي والثوري والعسكري!

الخروج من التقاليد الإعلامية العربية المملة و الكئيبة والتي تبدأ أولا بأخبار الزعيم الأول، ثم أخبار أقرب المقربين له من عشيرته وذويه، حتى لو كانت الأخبار هي تهنئته بالشفاء من انفلونزا الملوك، أوبزواج نجله وكريمته، وهذه الأخبار دائما في معظم دول العرب تكون قبل أخبار الزلازل والبراكين وسقوط الطائرات والحروب والمنازعات، وانحدار مؤشرات المال، وقبل الكوارث الاقتصادية، وقبل الفقر والبطالة وانتشار تجارة الإدمان، وهي بالطبع تحظى بالأفضلية على تلوث الجو بالمواد السامة، وتلوث مياه الآبار الجوفية، وتُذكر دائما – حتى- قبل الاستعدادات النووية العالمية !

ثم تأتي أخبارُ المسؤول الثاني والثالث والرابع، وأخبارهم – بالطبع- مقدمةٌ أيضا على الأخبار العالمية السابقة، باعتبار البلدان العربية - وفق الأغنية العربية التراثية- أغلى وأثمن من كل بلدان العالم وباعتبار لغة الضاد هي مركبنا الوحيد نحو عالم الألفية الثالثة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 22/تموز/2009 - 29/رجب/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م