
شبكة النبأ: حين يُشار الى الدولة
الفلانية بأنها دولة مؤسسات راسخة، فهذا يعني أنها دولة قوية تستمد
كيانها الراسخ من ثبات ودستورية مؤسساتها التي تشترك في عملية صنع
القرار كالبرلمان ومجلس الرئاسة ومجلس الوزراء والقضاء الذي سيكون قويا
مستقلا في ظل الدولة المؤسساتية الراسخة، وفي دول مهذه غالبا ما تتوافر
حرية التعبير على نحو واضح ومستقل ومتفق عليه ليس في إطار اللفظيات
والقوانين وما شابه، بل ثمة حضور فاعل لحرية التعبير على أرض الواقع،
بكلمة أخرى أن الدول المؤسساتية الراسخة تستند في قوتها ومشروعية
قراراتها الى قوة حرية التعبير وإسهام الدولة في تكفّل الرأي وطرحه
سواء من لدن الافراد كونهم ينتمون الى هذه الدولة او كمؤسسات إعلامية
او منظمات مجتمع مدني او غيرها ممن يشترك في تفعيل عملية المراقبة
المتواصل للاداء الحكومي وتأشير الخلل وتصحيحه مع محاسبة من يتسبب
بتقصير من هذا النوع عبر الجهات المتخصصة.
وسوف نتفق على أن هذه الآلية معروفة وراسخة في الدول الدستورية
القوية، بمعنى ان حرية التعبير مكفولة بصورة تامة في مثل هذه الدول
ولعلها أحد مصادر قوتها المهمة، ولكن كيف سيكون عليه الحال في الدول
ذات المؤسسات الدستورية الشكلية؟ ولنطرح هذا التساؤل بصيغة أخرى، هل
تتمكن الدول المُقادة من قبل أنظمة دكتاتورية شمولية أن تكفل حرية
التعبير بالمعنى الدقيق لهذا التوصيف؟.
ولعل الاجابة ستأتي بالنفي التام لأن ثمة تعارضا قاطعا بين هذه
الأنظمة وبين الحريات الجوهرية بمجملها، إذ لا يلتقي النظام الفردي مع
حرية التعبير بسبب هشاشة المؤسسات العاملة وفقا للحريات الجوهرية مجسدة
بالدستور الدائم الذي ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم على نحو مستمد
من رؤية شعبية واسعة .
وما بين الدول المؤسساتية الراسخة والدول ذات الانظمة الشمولية
المتسلطة وبروز التقاطع الحاد بين منهجيهما، سيكون لدينا دول لا تزال
في منتصف الطريق، بمعنى انها لم تبن بعد مؤسسات دولة قوية متوازنة، ولم
تقع تحت قبضة الدكتاتورية التامة كما هو الحال في العراق الذي تخلص من
ربقة الحكم الشمولي المتسلط، لكنه لم يصل بعد الى بناء دولة المؤسسات
بصورة تامة، وهنا تحديدا نود معرفة مكانة حرية التعبير والدور الذي
ستلعبه في ترسيخ النظام الدستوري .
فهل هناك تقاطع بين بناء الدولة ومؤسساتها الدستورية وبين كفالة
حرية التعبير؟ ولعل ما يدور في الساحة السياسية العراقية يمكن أن يقدم
لنا صورة وافية للاجابة عن هذا السؤال، فلقد تعطّش العراقيون لحرية
الرأي في ظل كبت سياسي دام عقودا متتابعة، حيث يقدم لنا التأريخ
السياسي العراقي الحديث تجارب متتالية لأنظمة حكم فاشلة، ولعل فشلها
يكمن في الطرائق المخجلة التي تعاملت بها مع جوهر الحرية الفردية او
الجمعية على حد سواء، وقد لاحظ المراقبون طبيعة تلك الانظمة التي وضعت
الرأي في أسفل إهتماماتها وصار الحفاظ على كرسي السلطة من أهم
أولوياتها، ولعلها برعت في تكميم الافواه ومحاصرة وضرب الرأي الفردي او
الجمعي، كما حدث في التجربة القريبة التي خاضها العراقيون مع نظام صدام،
فقد كان الصوت الذي يؤشر خللا ما في الاداء الحكومي يمثل طرفا معاديا
ومدفوعا من جهات أخرى خارجية او داخلية لا تريد خيرا بالعراقيين، وهكذا
غالبا ما يتحول الصراع بين الحرية والحاكم الى صراع بين (الحاكم
ومؤامرة العدو المفترض) ولهذا غاب دور الرأي وتهمّشت الحرية وغُيّبتْ
دولة المؤسسات وتسيَّد النفس الفردي في إدارة شؤون الدولة وملايين
الافراد، فمن كان مع الحاكم هو المواطن الصالح الوطني ومن عارضه في
الرأي والسلوك فهو عنصر متآمر، وبهذه الطريقة أُلغيَ دور حرية التعبير
بصورة شاملة في ظل الأنظمة السياسية التي فعلت كل شيء من اجل الحفاظ
على الكرسي.
ولذلك ينبغي أن يتنبه القادة السياسيون الى أن معارضة الرأي وكبح
الحرية لا تصب في صالحهم قبل غيرهم، ولن تسهم في بناء الدولة الدستورية
المتوخاة، كما انهم لو اعتمدوا منهجا كهذا فإنهم يعودون بنا الى أساليب
قديمة تحاول أن تحيي من جديد (حس المؤامرة والخوف من الآخر) بحجة ضرب
التجربة ومحاولة إفشالها، فمن الأهمية بمكان أن يعي قادة الدولة بأنهم
مطالبون بكفالة الحرية كجوهر انساني يهدف الى بناء دولة دستورية لاتخشى
التلكؤ او النكوص كونها تعتمد حرية الآراء والطروحات بمختلف توجهاتها.
أما في حالة وضع اللواصق على الاذان وعدم سماع الأصوات الأخرى في
الوقت الذي يُسمَح لك بأن تبوح بها، فإن هذا الاسلوب قد يختلف مع
أساليب الانظمة الشمولية لكنه سيلتقي معها بالنتيجة، بمعنى ان المطلوب
هو كفالة حرية التعبير والعمل بها وليس سماعها ثم إهمالها، ومن اجل
تفعيل دور حرية التعبير وعدم تعارضه مع ترسيخ دولة المؤسسات نطرح الرؤى
التالية في هذا المجال:
- أن يؤمن السياسيون بأن حماية الرأي
وتفعيله منهج متحضِّر يصبّ في صالح الجميع.
- أن تُدرك الدولة القوية بأنها تستمد عناصر قوتها من كفالتها لحرية
التعبير.
- أن يتعامل صنّاع القرار بجدية في إشراك الآراء المتنوعة في إدارة
شؤون الدولة.
- أن يبتعد قادة اليوم عن مرض (هاجس المؤامرة) وأن يتعاملوا مع جميع
الآراء من منطلق المصلحة العامة أولاً.
- أن يعمل المعنيون على تنمية الثقة المتبادلة ورعاية الرأي والرأي
الآخر.
- أن تقوم الدولة بدورها التوجيهي لتنمية حرية الرأي ورعاية هذا
المنهج واعتماده كإسلوب سياسي متحضر يسهم بحماية الدولة من صعود
الأنظمة الشمولية. |