الحرية من منظور إسلامي

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: قد يبدو الحديث عن الحرية كمفهوم من بديهيات الكلام، نظرا لكثرة ما تردد عن هذا المفهوم من آراء وتفسيرات في بحوث ودراسات ومؤلفات المصلحين والمفكرين والفلاسفة القدماء والمعاصرين وغيرهم، ولم يُخطئ بعض الفلاسفة حين قالوا ان بعض المفاهيم (ومن بينها الحرية) تتجدد وتتحدث مع توالي الاعوام والحقب التأريخية المتوالية، غير أن جوهرها يبقى ثابتا ما بقيت الحياة قائمة، ولعل الاشكالية تكمن في تلك المقارنات المتعجلة التي يعقدها البعض بين نظرة الاسلام للحرية وتعامله معها وبين نظرة الآخرين لها ومن بينهم الغرب بطبيعة الحال.

فثمة من يرى أن الغرب هم أهل الحرية وهم من فتح الابواب والسبل لترسيخها في حين -كما يرى هذا البعض- ان الاسلام ينطوي على كثير من المحرمات والنواهي التي تحد من الحرية الفردية او الجمعية، لكن من يطلق مثل هذه الأقاويل لم يكلّف نفسه عناء الاطلاع على مبادئ الاسلام في هذا الصدد ولا يفهم نظرته الى جوهر الحرية الانسانية وليس الى شكلها، ولعل جوهر نظرة الاسلام الى الحرية يكمن في هذه الجملة الواضحة النقية التي لا تقبل التحريف او التأويل (لا إكراه في الدين).

إن نظرة الاسلام للحرية تبدأ ولاتنتهي بهذه الآية الكريمة، ولقد أسهب سماحة المرجع الديني السيد صادق الحسيني الشيرازي في تبيان مفهوم الحرية وتوضيحه والخوض في جوهره لكي يضع النقاط على الحروف ويوضح ماتعنيه الحرية للاسلام إذ جاء في كتاب سماحته (الحرية في الاسلام) حول هذا الموضوع:

(يقول الإسلام: اعمل ما تشاء، فلك حرية العمل شريطة أن لا تضرّ غيرك؛ فإنّه «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»(16) والإسلام يضرب بشدّة على يد الظالم ومَن يريد إلحاق الضرر بالآخرين، وبعد ذلك فأنت حرّ في كلّ أمورك، في ذهابك ومجيئك وسفرك وعلاقاتك، فلا ضغط ولا جبر ولا إكراه ولا كبت للحرية في الإسلام، ولكن ثمة توجيهات وإرشادات تبيّن لك السلوك الأحسن، تقول: هذا صحيح وهذا مستحبّ وهذا مفضّل وهذا مكروه).

ووفقا لهذا الطرح فإن الانسان غير مقيد بجانب فكري او سلوكي محدد كما يرى الاسلام لكن الامر الهام الذي لايمكن إغفاله هنا، هو التزام الانسان نفسه بعد التجاوز على الآخرين أو إحداث الضرر المعنوي او المادي لهم، هذا هو شرط الاسلام على من يريد أن يمارس حريته حتى في اختياره للدين، فحين نتمعن بجملة (لا إكراه في الدين) فسوف نعرف تماما ما تعنيه وما تريد ان يفعله المسلم او غيره، فهو حر إلاّ فيما يتعلق بدرجة الضرر التي قد تسببها حريته للآخرين، وقد ورد وقد ورد في هذا الصدد بكتاب سماحة المرجع الديني الشيرازي (الحرية في الاسلام):

(من أصول الإسلام المسلّمة والمؤكّدة مسألة حرية اختيار الدين؛ قال تعالى: لا إكراه في الدين. بل ليكن معلوماً ـ قبل كلّ شيء ـ أنّ الإسلام وحده هو دين الحرّية. فحتّى المدارس والمبادئ الأخرى التي ظهرت منذ قرون وما زالت ترفع شعار الحرّية لا واقع للحرية فيها سوى الاسم. أمّا الإسلام فهو دين الحريات مبدأً وشعاراً، وقولاً وعملاً. وهذا موضوع طويل يتطلّب من الباحث أن يطالع الفقه الإسلامي بتعمّق ـ من أوّله إلى آخره ـ لكي يعرف كيف أنّ الإسلام التزم بمبدأ -لا إكراه في الدين- في مختلف مجالات الحياة).

لذلك من الامور البديهية أن يطلع الباحث على موضوع البحث الذي يناقشه، فلا يجوز أن يلصق هذه التهمة او تلك بهذا المبدأ او الدين أو الرأي قبل أن يطلع على رؤاه ومبادئه ونظرته الى الحرية على سبيل المثال، لذا نرى أن النظرة القاصرة التي تتهم الاسلام بتحديد الحرية ووضع العراقيل والنواهي بوجهها ما هي إلاّ تهم لا تصمد اما الوقائع التي تحدث على الارض، حيث لا محددات للحرية في الاسلام إلاّ في حالات الضرر للنفس او الضرر بالآخر، كما نقرأ ذلك في كتاب (الحرية في الاسلام:

(هناك تهمة وجّهها بعض المستشرقين إلى الإسلام ويردّدها بعض الشباب الذين لا يعرفون الإسلام حق معرفته. فهم يقولون: إنّ الإسلام كلّه محرّمات وقيود ونواهٍ. ونحن نقول لهم: بالعكس تماماً فإنّ الحرية الموجودة في الإسلام لا يوجد لها نظير في أيّ مكان!

خذوا أكثر بلدان العالَم ادعاءً للحرية كفرنسا والولايات المتّحدة مثلاً، ترى القيود الكثيرة للسفر منها وإليها، وفي جوانب كثيرة أخرى. فهذه القيود موجودة في كلّ دول العالَم وإن كانت في بلداننا أشدّ. أمّا الإسلام فلا يوجد فيه مثل هذا، فلا يقول لك الإسلام: أين تسكن؟ وأين تذهب؟ وكيف تذهب؟ ومتى تذهب؟ بل يقول لك: إنّ الله خلقك وهو الذي أعطاك الفكر والعقل فلا تكن عبد غيرك، ولا يجب أن تخبر الدولة عن خروجك ودخولك، وإقامتك ورحيلك، وما تستورد وما تصدّر ـ غير المحرّمات ـ لكن الإسلام يضع لك التوجيهات ويقول لك إن التزمت بها تفلح وإلاّ تخسر!).

إن مثل هذه التهم الجاهزة لم تعد تنطلي على المتابع اللبيب الذي يبحث عن الجوهر قبل الشكل والذي يستند في إطلاق أحكامه على الدلائل والقرائن الواضحة، ويستند الى ما يحدث على أرض الواقع، فالقول بأن الاسلام ينطوي على الكثير من المحرمات والنواهي سيظل ناقصا وغير مقبول من دون البحث عن ماهية هذه المحرمات ونوعها ودرجة إضرارها بالآخرين، وعندما يتبين للباحث أهمية الالتزام بهذه المحرمات وعدم تجاوزها سيفهم ان الحرية في الاسلام هي جوهر الصلاح والنجاح والتقدم البشري، وكمثال حين حرّم الاسلام الزنا فإن أضراره معروفة للجميع وقد اكتشفها الغرب بنفسه وعانى منها كثيرا، لذا فإن تحريم الزنا ليس تحديدا لحرية الانسان بل حفاظا عليه بالدرجة الاولى وهكذا ينطبق هذا المثال على الامور والجوانب الاخرى التي تتعلق بالحرية كمفهوم وسلوك أيضا.

............................................................................

هامش:

(16) مستدرك الوسائل: 12 / 308 باب 13 ح 4.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 19/تموز/2009 - 26/رجب/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م