المبنى الأخلاقي لسياسة الاقتصاد في نهج البلاغة

د. رئيفة ابو راس

إنّ الوضع المتردّي للاقتصاد العالمي اليوم يدعونا إلى وقفة متأنّية، كما يدعونا إلى مراجعة عميقة للأسس التي بُني عليها هذا الاقتصاد، وهي في جوهرها أسس مادّيّة.

 وتأتي هذه المراجعة العميقة في إطار الفكر الإسلاميّ ذي الرسالة المتكاملة التي تُعنى بالقاعدة الأخلاقيّة إلى جانب القاعدة الماديّة، بل تقوّم الثانيّة في إطار الأولى.

 ولعلّ هذا التقويم الإسلامي ناشئ عن مراعاة الحالة الإنسانيّة في ثنائيّتها الوجوديّة المتجليّة في المادّة والروح. يقول السيّد محمّد باقر الصدر في إطار تحديده للمعالم الرئيسة لرسالتنا الإسلاميّة، وأوّلها النظرة الروحيّة إلى الحياة والكون بصورة عامّة: "ولا تعني الروحيّة هذه إنكار المعاني المادّيّة للكون

أو حصر نطاق الوجود في الروح والروحيّات كما يشاء الكثير من الكتّاب الأوربيّين أن يفسّروا النظرة الروحيّة بذلك. فالإسلام يعترف بالحقائق الروحيّة والمادّيّة وإنّما يربط تلك الحقائق جميعاً بسبب مشترك أعمق وهو الله تعالى. فالنظرة الروحيّة في جوهرها إذن عبارة عن إدراك صلة الحياة والكون بالله وانبثاقها عن قدرته وتقديره، وبهذا المعنى يمكن أن نعتبر الكون بصورة عامّة روحيّاً لأنّ تلك الصلة بالمبدع الخلاّق، صلة الخلق والإبداع، تشمل المادّة كما تشمل الروح وتنفذ إلى سياستها جميع محتويات الكون وحقائقه.

 وليست هذه النظرة الروحيّة التي تتمثّل فيها الحقيقة الكبرى للكون نظريّة مجرّدة، وإنّما تتّصل بالوجود العملي للإنسان كلّ الاتّصال وتحدّد له موقفه من عالمه الذي يعيشه والحياة التي يحياها ويستمدّ الإنسان منها أو على ضوئها اتّجاهه العام الذي ينعكس في كلِّ نشاطاته وأفعاله".

 وفي تحليلٍ عميقٍ لماهيّة الاختلاف بين الفكر الإسلامي وبين المنطلق الماركسي المادّي، يقول السيّد الصدر: "ليس اختلافنا مع الماركسيّة في حدود مفهومها المادّي للإدراك فحسب، لأنّ المفهوم الفلسفي للحياة العقليّة، وإن كان هو النقطة الرئيسية في معتركنا الفكريّ معها، ولكنّنا نختلف أيضاً في مدى علاقة الإدراك والشعور بالظروف الاجتماعيّة والمادّيّة، ولمّا كانت هذه الظروف تتطوّر تبعاً للعامل الاقتصادي، فالعامل الاقتصادي إذن هو العامل الرئيسي في التطوّر الفكري.

وإذا كان الإسلام ديناً عالميّاً يتناول الحياة الإنسانيّة من جميع جهاتها فلابدّ أن يكون له موقف معيّن إزاء ما يطرأ على مظاهر الحياة الإنسانيّة من تبدّل وتغيّر.

وما يطرأ على مظاهر الحياة الإنسانيّة من تغيّر تارةً يمسُّ الطبيعة المادّيّة التي تحيط بالإنسان، وأخرى يمسّ النظم الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة لهذه الحياة.

والقسم الأوّل من التغيّرات يظهر فيما أتيح للإنسان المعاصر من التقدّم العظيم في أساليب انتفاعه بالطبيعة المادّيّة والسيطرة عليها واستخدامها في تحسين شروط حياته اليوميّة، وهذا ما لم يقف الإسلام منه موقفاً سلبيّاً.

 أمّا القسم الثاني من التغيّرات فيظهر في النظم الاجتماعيّة والاقتصاديّة المبتدعة التي تمخّضت عنها الحضارة الغربية، ومفاهيم الإنسان الغربي عن الكون والحياة والإنسان. وموقف الإسلام من هذه النظم ممَّا قد يستحدث فيها من تغيير وتبديل ليس موقف الرفض المطلق وليس موقف القبول المطلق. فمثلاً لا يمكن أن يقبل الإسلام وجهة النظر الغربيّة في حيوانيّة الإنسان ومادّيّته ومشروعيّة الرّبا والمسألة الجنسيّة، ولكن ليس في الإسلام ما يحول بين العمّال وبين أن ينظّموا أنفسهم ويعهدوا إلى هيئة منهم تتولّى النظر في مصالحهم.

 وهكذا أرسى الإسلام دعائم التوازن في الحياة الإنسانيّة لتحقيق التكامل العام في جميع الميادين.

 ويُعدّ الإمام الجليل عليّ (عليه السلام) من روّاد المدرسة الإسلاميّة ذات المنحى المتكامل، ولذلك فقد اعتنى عناية كبيرة بالمبنى الأخلاقي للسياسة الاقتصاديّة على مستوى الفرد والمجتمع، وبما يكفل إرساء القواعد الحافظة لحقوق الجميع في إطار حياتهم الاجتماعيّة.

ويمكننا الاستهداء في هذا المجال بالقراءة المعمّقة لسياسته تلك، والتي قدّمها الدكتور محسن باقر الموسوي في كتابه القيّم "الفكر الاقتصادي في نهج البلاغة".

 ولعلّ أبرز معالم هذه القراءة تظهر في الفصل الثالث الذي تناول الفقر في نهج البلاغة وتَعرِض لدراسة أسبابه وعلاجه والوقاية منه.

 وقد جاءت معالجة الفقرلدى الإمام عليّ (عليه السلام) وفق ما يراه الدكتور الموسوي منقسمة إلى قسمين:

الأوّل: توصيات أخلاقيّة.

الثاني: خطط اقتصاديّة.

 القسم الأوّل: توصيات أخلاقيّة:

 والتوصيات الأخلاقيّة تنقسم بدورها إلى قسمين: توصيات للفقراء، وتوصيات للأغنياء.

القسم الأوّل: توصيات للفقراء هي:

1-القناعة:

وفي ذلك يقول الإمام: "مجاوزتك ما يكفيك فقر لا منتهى له".

لأنَّ الطمع بما هو أكثر من الكفاية يوجد في الإنسان الشعور بالحاجة، ولما لا يستطيع تلبية هذه الحاجة فإنه يدخل حينذاك في عداد الفقراء، بينما اكتفاء الإنسان بحاجاته الضروريّة يجعله غنيّاً عمّا في أيدي الآخرين. وهذه هي القناعة التي قال عنها الإمام: "القناعة كنز لا ينفد".

2-الصبر والتحمّل:

لأنَّ الصبر يجعل الإنسان مالكاً لإرادته، قادراً على تغيير أوضاع القهر، وإضاءة الطريق. يقول الإمام في ذلك: "احتمال الفقر أحسن من احتمال الذلّ".

ويمكننا أن نلمح هنا أثر التعليم النبوي الذي برز في قول هادي الأمّة (ص): "والصبر ضياء".

 3-الاستقامة:

لأنّ الفقر قد يخرج بصاحبه عن جادّة الصواب فيصل به إلى حدِّ الكفر ومن هنا جاءت وصيّة الإمام للفقراء قائلاً: "لا يكن فقرك كفراً".

4-العفّة:

فالعفّة تمنع الفقير من ارتكاب الموبقات، ومنها السرقة والاستيلاء على أموال الناس. يقول الإمام في ذلك: "ومجانبة السرقة إيجاباً للعفّة".

5-ذمّ الدنيا:

والمقصود بذمِّ الدنيا ذمّ الانصراف إليها كلّيّاً، وليس المراد ترك الكدح

أو العمل الصالح؛ ولذلك فقد أنكر الإمام على أحد أصحابه عندما جاءه ذامّاً الدنيا مطلقاً، وقال له: "إنّ الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها".

القسم الثاني: وصايا للأغنياء:

 1-عدم الاستطالة على الفقراء:

والاستطالة بما يحمل هذا اللفظ من معاني التكبّر والرفعة هي بداية نشوء الطبقيّة في المجتمع، وما يترتّب على ذلك من أضرار اجتماعيّة هدّامة.

2-الرحمة بالفقراء:

يقول الإمام في ذلك: "ارحم الفقراء لقلة صبرهم". وذلك لأنّهم أصحاب حاجة قد تخرج بهم إلى حدِّ القلق والاضطراب.

3-الإسراع في تلبية حاجة الناس:

يقول الإمام في هذا السياق: "الق الناس عند حاجتهم إليك بالبِشْرِ والتواضع، فإن نابتك نائبة وحالت بك حال لقيتهم وقد أمنت ذلّة التنصّل إليهم والتواضع".

وهذا لون من الإدراك الحكيم لطبيعة التغيّرات الاجتماعيّة التي تقتضي المبادرة الإيجابيّة في المواقع المتبادلة.

4-ألاّ يؤدي الغِنَى بالغنيِّ إلى الطغيان:

لأنّ الطغيان من أبواب البغي والظلم، وهذا ما يتناقض مع التوجيهات الإسلاميّة الداعية إلى التراحم.

5-أن يكون الغَنيُّ شاكراً لله:

فالشكر باب لزيادة النِّعَم، وبالتالي باب لمزيد من الاستثمار النافع للمجتمع.

6-السخاء:

يقول الإمام في ذلك: "اجتماع المال عند الأسخياء أحد الخصبين".

القسم الثاني: خطط أو (خطوات) اقتصاديّة:

أمَّا الخطط أو الخطوات الاقتصاديّة التي قرّرها الإمام فهي ذات ثلاثة اتّجاهات:

الاتّجاه الأوّل: خطوات يقوم بها الأفراد.

الاتّجاه الثاني: خطوات يقوم بها المجتمع.

الاتّجاه الثالث: خطوات تقوم بها الدولة.

أ-الخطوات التي يقوم بها الأفراد:

1-طلب العلم:

فأيّ نهضة اجتماعيّة أو اقتصاديّة لا يمكن أن تحصل إلاّ بالعلم. والمال بحاجة إلى العلم في الاستثمار وفي التوزيع. يقول الإمام: "والعلم حاكم والمال محكوم عليه".

فلابدّ أن يخضع المال سواء في استثماره أو إنفاقه إلى المقوّمات العلميّة القادرة على التحكّم به بما يزيد من الثروة وبما هو مصلحة عامّة للجميع.

2-كسب التجربة:

لأنّ العلم لا يكفي دون أن تسدّده التجربة، وفي "نهج البلاغة" توصيات كثيرة بالاهتمام بالتجربة، وبمجالسة أصحاب التجارب.

وعلى الإنسان الاستفادة من التجربة، وتعميقها في إطار عمله ومهنته ليرتقي إلى ما هو أفضل.

فالصعود يجب أن يكون عموديّاً وليس أفقيّاً، وهذه قاعدة أساسيّة في الاقتصاد المهني، فصاحب المهنة وبدلاً من التنقّل المستمرّ بين الأعمال المختلفة عليه أن يعمّق تجربته حتّى يبلغ مرحلة التمام، وهذا ما عَنَى به الإمام من كلامه: "ومن التوفيق حفظ التجربة".

3-العمل:

لم يقدّس الإسلام شيئاً كتقديسه للعمل، فقد جعله الأساس للعبادة ليس في الدنيا وحسب، بل وللآخرة أيضاً، فمن لا معاش له لا معاد له. وللإمام آراء مهمّة في العمل ومنها دعوته إلى عدم الركون للأمل، بل الإحساس بالمسؤوليّة وفي ذلك قال: "فبادروا العمل وكذّبوا الأمل"

4-التدبير:

والتدبير هو التنظيم، وهو يشمل أوقات العمل، تنظيم الإنفاق، تنظيم مفاصل العمل، وبدون التدبير سيخسر الإنسان كلّ شيء، يخسر رأسماله، ويخسر وقته، ويخسر جهده، أمّا ما يخسره فيكون نتيجة خللٍ في تنظيم الوقت، أو نتيجة فشل في الإدارة، أو نتيجة عدم التوازن في الوارد والصادر. يقول الإمام في ذلك: "ولا مال لمن لا تدبير له".

5-ترشيد الإنفاق:

عندما يخرج الإنفاق عن حسابات الدخل يضطرب الوضع الاقتصادي للفرد والمجتمع، فلابدَّ أن يتناسب الإنفاق مع الدخل، وقد جاء في وصف الإمام للمتّقين قوله: "وملبسهم الاقتصاد" أي أنّ الاقتصاد هو منهجهم وحياتهم.

6-الإنتاج والاستثمار:

ومن الإنتاج يتكوّن المال فيأتي دور الاستثمار، والاستثمار يمنع حبس المال إذ يضعه في خدمة المجتمع إمّا بالمضاربة، أو المزارعة، أو التجارة، أو ما شابه من أبواب الكسب الحلال.

7-انتهاز الفُرَص:

وممّا جاء من أقواله في هذا السياق: "الفرصة تمرّ مرّ السحاب، فانتهزوا فُرَصَ الخير".

وعندما يكون الإنسان على أهبة الاستعداد، دائم التفكير والملاحظة يستطيع أن يدرك ما يجري من حوله من تحوّلات وتغيّرات، ويتمكّن أن يميّز الفرصة عن الأوقات الضائعة، ويستطيع أيضاً أن يقرّر الأسلوب الأمثل في استغلال الفرصة قبل ضياعها.

8-العطاء المتواصل:

فالعطاء مهما كان قليلاً له تأثير في الاقتصاد، لأنّ إخراج المال من صندوق العدم (الاكتناز) إلى الوجود يعني إضافة شحنات جديدة إلى جسد الاقتصاد، وبالتالي سيحرّك عجلة التبادل الاقتصادي فيستفيد منه المجتمع.

9-إنفاق الزكاة:

لأنّ الزكاة تنشّط الحياة الاقتصاديّة، ويظلّ هذا النشاط متواصلاً فيحيي وسائل الإنتاج المختلفة، فيربح الجميع بلا استثناء.

10-تنظيم الأسرة:

وهو بتقدير عدد الأبناء بشكل يتناسب والدخل، وفي ذلك يقول الإمام: "قلّة العيال أحد اليسارين".

ب-الخطوات التي يقوم بها المجتمع:

أمّا طرق المجتمع في دفع الفقر عن أبنائه فهي:

1-التكافل الاجتماعي.

2-إقامة التعاونيّات.

3-الرقابة على الدولة.

1-التكافل الاجتماعي:

ويقوم مبدأ التكافل الاجتماعي في الإسلام على مبدأ حقوق الفرد على الجماعة. وطريقة التكافل أن يُحصى عدد الفقراء في البلد الواحد، ثمّ يقسّمون على الأغنياء في ذلك البلد، وكلّ غنيٍّ يتكفّل بعدد من الفقراء بما يتناسب وحالته الاقتصاديّة، عليه أن يدفع مقداراً من السيولة للفقير حتّى يستثمرها لتأمين معاشه.

ووجود السيولة بأيدي الفقراء سيزيد من حركة السوق، وبالتالي سيؤدّي حتماً إلى زيادة الثروة. وهكذا تتحرّك الحلقات الاقتصاديّة في النظام الإسلاميّ القائم على الإنسانيّة الحقّة والأخوّة الصادقة.

2-إقامة التعاونيّات:

على قيم التعاون أقام الإسلام جملة من تشريعاته الاقتصاديّة التي لولا وجود تلك القيم لما كان بالإمكان القيام بها مطلقاً، من هذه التشريعات، المساقاة، المزارعة، المضاربة، الشركة... وهي تقوم على مساهمتين: مساهمة رأس المال مع العمل، وتقوم على تحمّل الطرفين للنتائج سواء في الربح أو الخسارة.

وعلى هذا الأساس من هذه الروح الاجتماعية التعاونية نبذ الإسلام الربا لأنّه طريق لاستغلال المجتمع، وليس طريقاً للتعاون.

ويبرّر الإمام نظريّة التعاون الاقتصادي بالحاجات المتبادلة التي لا يمكن الفكاك عنها. فالبشر أحدهم بحاجة إلى الآخر. وفي ذلك يقول: "لا تدعُ الله أن يغنيك عن الناس فإنّ حاجات الناس بعضهم إلى بعض متّصلة كاتّصال الأعضاء".

3-الرّقابة على الدولة:

المجتمع مسؤول عن تصرّفات الدولة من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو من خلال مجالس الشورى التي تقوم بمراقبة أموال الدولة بمختلف الأصناف والوظائف، وتطبّق مبدأ المحاسبة.

فلو أردنا أن نطبّق قاعدة: (من أين لك هذا؟)، فكم من الأموال الطائلة يمكن أن تُعاد إلى الشعب بعد أن كانت ستذهب إلى جيوب المنتفعين المستغلّين الذين نصّبوا أنفسهم أمناء على الشعب.

ج- الخطوات التي تقوم بها الدولة:

تقوم مسؤوليّة الدولة على المبرّرات نفسها التي يتحمّل المجتمع على أساسها مسؤوليّة الفرد، بل إنّ مسؤوليّة الدولة أكبر، لأنّ وجودها يقوم على أساس توفير الحماية للفرد، فإذا لم تستطع توفير هذه الحماية فقد فقدت مبرّرات وجودها، وإذا كان المجتمع يتحمّل قسطاً من المسؤوليّة الاقتصاديّة فإنّ الدولة بما أتيح لها من صلاحيات، وتوفّر لها من إمكانات تتحمّل القسط الأوفر من المسؤوليّة الاقتصاديّة وامتداداً لمسؤوليّات المجتمع في الجانب الاقتصادي، فإنّ الدولة تتحمّل الوظيفة المتمّمة لمسؤوليّة المجتمع وهي:

1-الضمان الاجتماعي.

2-رقابة السوق.

3-رقابة الملكيّة.

1-الضمان الاجتماعي:

فرض الإسلام على الدولة حماية أفراد المجتمع الإسلامي من الفقر والعوز فهي ضامنة لمعيشة أفراد المجتمع ضماناً كاملاً، وهي في العادة تنجز هذه المهمّة على مرحلتين: المرحلة الأولى، تهيّئ الدولة للفرد وسائل العمل، وفرصة المساهمة الكريمة في النشاط الاقتصادي المثمر ليعيش على أساس عمله وجهده، فإذا كان الفرد عاجزاً عن العمل وكسب معيشته بنفسه كسباً كاملاً، أو كانت الدولة في ظرف استثنائي لا يمكنها منحه الفرصة الكاملة للعمل، هنا يأتي الدور للمرحلة الثانيّة والتي تمارس فيها الدولة تطبيق مبدأ الضمان عن طريق تهيئة المال الكافي لسدّ حاجات الفرد وتوفير حدٍّ خاص من المعيشة له.

ويعدّ الإمام رائد فكرة الضمان الاجتماعي الذي تتّسع دائرته لتشمل حتّى غير المسلم.

2-الرّقابة على السوق:

لاشكّ أنّ أحد أسباب الفقر هو التضخّم، وهو زيادة السيولة الماليّة بنسبة أكبر من زيادة الإنتاج، فيصبح العرض أقلّ من الطلب فترتفع الأسعار.

ولمّا كان دخل الفقراء محدوداً فإنّ هذه الزيادة في الأسعار ستؤثّر بشكل واضح في حياتهم، فكان لابدّ من إجراءات اقتصاديّة تسيطر على معدّلات التضخّم.

ونحن نعثر على مثل هذه الإجراءات في رسالة الإمام إلى واليه في مصر مالك الأشتر، والتي برز فيها مبدأ ترشيد المال، ومبدأ زيادة الإنتاج، ومبدأ التسعيرة العادلة.

3-رقابة الملكيّة:

لابدّ من وجود إشراف للدولة على جميع أشكال الملكيّة، كما أن للدولة الحقّ في فرض مقدارٍ من الضريبة على الأرض التي تخضع لملكيّتها وتسمّى "الخراج". وأساس الحقّ في الحيازة والتملّك في النوع الثالث من الملكيّة هو القيام بالمسؤوليّة إزاء الأرض، فإذا أخلّ الفرد بالمسؤوليّة سقط حقّه.

وتستطيع الدولة من خلال هذه الرقابة على الملكيّة أن تضع نظاماً يشمل إحياء الأرض واستحصال الخراج لتخدم بثمار هذا النظام الواقعَ الاقتصاديّ المريض للدولة والمجتمع بما يكفل إزالة شبح الفقر من المجتمع الإسلامي.

وأخيراً: إنّ المبنى الأخلاقي للسياسة الاقتصاديّة لدى الإمام لم يتجلَّ لنا من خلال التوصيات الأخلاقيّة فحسب بل من خلال الخطط الاقتصاديّة التي تنهض على القيم الرفيعة وتعزّز مكانة الإنسان المستخلف في الأرض.

وفي مرآة هذه القيم بدا لنا مكرّم الموقف كما هو مكرّم الوجه سلام الله ورضوانه عليه وعلى ذرّيّته الطاهرة إلى يوم الدين.

...............................

* ورقة مقدمة الى المهرجان العالمي التاسع للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام المنعقد في دمشق تحت شعار: النهج الاقتصادي للإمام علي عليه السلام.. دروس للحاضر والمستقبل

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 18/تموز/2009 - 25/رجب/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م