ظاهرة التملّق وأضرارها المنظورة وغير المنظورة

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: تبذل الشعوب والامم جهودا حثيثة ومتواصلة لكي ترتقي في علاقاتها المتنوعة سواء بين أفرادها ومكوناتها او مع المحيط الخارجي المكوَّن من شعوب وأمم أخرى، ولعل المتراكم من التجارب الانسانية التي مرّ بها الانسان هي التي أسست وطوّرت منظومة العلاقات الاجتماعية والسياسية والانتاجية كافة، وهي التي أعطت هذه الملامح او تلك لهذه الامة دون غيرها، فتشكلت سمات النجاح او الخلل في المنظومات السلوكية والفكرية لعموم المجتمعات البشرية.

وطالما ان الانسان سعى منذ نشأته ولا يزال نحو تطوير قابلياته ومواهبه على الاصعدة كافة، فإنه حقق ولايزال يحقق تقدما في مجال صقل العلاقات وتطويرها وتشذيبها المتواصل من الشوائب التي لا تليق بالبشر سواء من حيث السلوك او التفكير او كلاهما في آن واحد، ومع ذلك لم تكن مستويات النجاح او الفشل في منظومة العلاقات متساوية بين الامم، بل ثمة فوارق في هذا المجال تشكلها وتدعمها بعض الظواهر المرفوضة أو المقبولة من قبل المجتمعات على كثرتها وتنوعها، ومن هذه الظواهر المقيتة هي ظاهرة التملق التي لم تكن وليدة اليوم ولعل جذورها تعود الى مئات بل آلاف الأعوام.

وما نلاحظه على العلاقات القائمة في مجتمعنا بروز هذه الظاهرة بل واستشرائها في أغلب المفاصل العلاقاتية ما أدى الى اختلال في المعايير التي تحدد جودة هذه العلاقات او رداءتها، ولعل المشكلة التي تظهر في هذا المجال هي قضية الموازنة بين السلوك والعمل المطلوب تحقيقهما، فثمة من الافراد من يجيد السلوك والقول حد التملق الواضح على حساب الانجاز العملي الملحوظ، وثمة شخص آخر يجيد العمل لكنه قد يفتقر الى القول والسلوك المقبول، وهنا ستختل العلاقات بمختلف انواعها وذلك باختلال معايير التقييم التي يُستنَد إليها، ومع ان كثيرا من الناس يؤكد على ان العمل هو الذي يتحدث عن نفسه، غير أن طبيعة العصر تحتم علينا -كأفراد ضمن منظومة اجتماعية كبيرة- التعامل مع الآخرين لا سيما ارباب العمل ومسؤولوا الانتاج بإسلوب مقبول ينطوي على درجة عالية من الذوق المتعارف عليه. 

غير أن الاشكالية الكبيرة التي انطوت عليها منظومة العلاقات القائمة في مجتمعنا الآن تتمثل بانتشار ظاهرة التملق على المستويين الفردي والجمعي ممثلة بعلاقات الافراد مع بعضهم او علاقات الجماعات كمؤسسات ومنظمات وغيرها مع بعضها، فالموظف العادي على سبيل المثال يتملق رئيسه بطرق شتى كي يسد نقصا واضحا في واجبه الانتاجي مهما كانت طبيعته، والمشكلة الاخرى تتمثل برؤساء العمل الذين يتقبلون هذه الظاهرة بل بعضهم يحث عليها ويشجع على ممارستها وذلك سدّا لنقص نفسي تنطوي عليه شخصيته غير المتوازنة، وهذا ما يؤدي بدوره الى دعم هذه الظاهرة والمساعدة على انتشارها مقابل ضعف كبير في الانتاجية الفردية او المؤسساتية.

ولعل التملّق لا ينحصر بالقادة السياسين او رؤساء الوزارات وما شابه، إذ من المعروف ان هذه الظاهرة تعيش وتتنامى في مثل هذه المؤسسات والدوائر غير ان العنصر الذي سيشكل صمام أمان تجاه العناصر المتملقة هو شخصية المسؤول وزيرا كان او مديرا عاما ومدى اتزانه وتمتعه بالعدل والمساواة والضمير الحي، حيث يتابع هذه الظاهرة وعناصرها ويعمل بقوة على محاربتها ورصد العناصر التي تتعامل وفقا لها.

وثمة من هذه الظاهرة ما يتعلق بتملق ضعاف النفوس للأغنياء، وهم لا يعلمون ان الغنى هو (غنى النفس) وان كرامة الانسان وصيانتها ستقوده الى الثراء الخالد المتمثل برضا الله تعالى والناس معا، لذلك ينبغي أن يعمل جميع المعنيين على محاربة هذه الظاهرة لأنها أساس الظلم وأساس الشعور بالغبن وأساس استفحال الاحباط والنكوص وضعف الانتاج من خلال الارباك العلاقاتي الذي تصنعه هذه الظاهرة وقبولها من قبل بعض عناصر المجتمع سواء من المتملقين أو المتملَّق لهم.

ومع رصدنا لشيوع التملق بين مفاصل كثيرة تدخل في الحراك المجتمعي العام، إلا اننا ينبغي ان نجتهد ونمارس دورنا في الحد من هذه الظاهرة، ولعل تأريخنا يحفل بالنماذج الانسانية المتفردة التي أظهرت حزما كبيرا في معالجة التملق والقضاء عليه لا سيما ذلك الذي غالبا ما يكون مصدره الحاشية او البطانة (الخبيثة)، ولدرء خطر التملق يمكننا القيام بما يلي:

- أهمية التوعية المستمرة على خطورة انتشار التملق بين شرائح ومفاصل المجتمع كافة بسبب ما تلحقه من غبن بيّن بالآخرين.

- رصد العناصر المتملقة وتحذيرها لترك هذا السلوك المهين.

- إحقاق الحق من لدن المسؤولين وعدم انطلاء الكلمات المنمقة عليهم والحث على ترك التملك واللجوء الى معايير النزاهة والصدق والاعتماد على الحقائق حصرا.

- مراقبة ما ينقله عناصر البطانة (المتملقة) من معلومات للقادة والمسؤولين وتدقيقه بما لا يلحق غبنا بالآخرين.

- إطلاق حملات مناهضة لهذا السلوك الشائن في الاعلام المتنوع وتنوير عامة الناس بأضراره الفادحة على المجتمع.

وبالقضاء على التملّق (وهو امر ربما يكون محالاً) لكن بالحد منه ورصد عناصره نكون قد حققنا خطوات هامة نحو بناء المجتمع المتوازن الذي يقوم على مبدأ التكافؤ والعدل والمساواة بين ما ينتجه الفرد وبين ما يحصل عليه، بعيدا عن سبل وطرائق التملق الملتوية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 14/تموز/2009 - 21/رجب/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م