السياسة الصحية من منظور اسلامي

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: كما توضع الخطط الستراتيجية للبرامج السياسية وغيرها، ينبغي أن تكون هناك خطط علمية واضحة تتعلق بتسيير الجانب الصحي وامكانية او طبيعة تطبيق البرامج الصحية على ارض الواقع نظرا لما يتميز به هذا القطاع من أهمية تخص عموم الشعب، ولعل المفارقة الغريبة التي يستطيع المتابع ان يرصدها تتمثل بالعلاقة العكسية بين ازدياد الامراض البشرية مع ازدياد الامكانيات الصحية سواء من حيث الاختراعات المتواصلة للعقارات واللقاحات الجديدة او من حيث العدد والاجهزة الطبية المتطورة التي تشترك في العمليات الطبية الجراحية وغيرها.

فماذا نفسر مثلا قلة الامراض سابقا (قبل خمسين او ستين سنة مثلا) مع قلة الامكانيات البشرية في الجانب الصحي؟ ولماذا كان مرض السكتة القلبية على سبيل المثال يشكل نسبة تكاد لا تُذكر بين المسلمين على وجه الخصوص؟.

إن الغرض من طرح مثل هذه الاسئلة هو البحث عن الاسباب التي تقف وراء هذه الصعود المذهل في نسبة الامراض التي تصيب الناس على الرغم من تطور الاختراعات والاكتشافات الطبية سواء بالنسبة للعلاج او الاجهزة الطبية الحديثة، إن الاسباب قد تكون متعددة وربما تشمل مجالات يصعب حصرها غير ان الخلل لا بد أن يتركّز في النظام الصحي المتبع حاليا لا سيما في المجتمعات الاسلامية، إذ تم الابتعاد عن الارث الصحي الاسلامي، ويقول المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي حول هذا الموضوع في كتابه السياسة من واقع الاسلام في فصل (سياسة الإسلام في المجال الصحّي):

إننا (حين لا ننكر ما للطب الحديث من التقدّم في بعض المجالات، نتساءل:

لماذا أصبح الطب اليوم ـ بما أوتي من حول وطول ـ عاجزاً عن معالجة المرضى، ومكتوف الأيدي أمام هذا العدد الهائل من الأمراض؟

ففي كل بلد يكون كبيراً، ترى المرضى يعدّون بالألوف.. والأطباء بالمئات.. والصيادلة ومخازن ومستودعات بيع الأدوية والعلاج بالمئات.

ولو قسنا هذه الكمية الكبيرة بعهد الإسلام وعدد المرضى فيه لكانت النسبة واحداً بالمائة، أو أقل بكثير(1).

أليس ذلك دليلاً على رشد الإسلام في سياسته الصحّية، وفشل غير الإسلام في هذا المجال؟

فالأطباء يضاعف عددهم سنوياً بالألوف. والمستشفيات في ازدياد. والتجارب الصحّية في تقدم. والمرضى ملء الدنيا. والأمراض طبقت البلاد. فهل هذه سياسة صحّية رشيدة؟).

وهكذا نلاحظ الغرابة فيما يحدث على ارض الواقع، ونلاحظ هذا التباين الغريب بين تطور الطب وازدياد الامراض بصورة كبيرة، وهذا ما يدفعنا الى الاتفاق مع رأي المرجع الشيرازي الذي يؤكد بأن ثمة خلل في الأنظمة الصحية المتبعة في الدول الاسلامية، ويورد سماحته بعض الأمثلة للمقارنة بين ما كان عليه النظام الصحي إبان الحكم الاسلامي وبين ما أصبح عليه حين تنكّر المسلمون لارثهم وخبراتهم المتراكمة في هذا المجال، وفي هذا الصدد يقول سماحته في كتابه القيّم الموسوم بـ (السياسة من واقع الاسلام):

(ولنضع هنا مثلاً يكون نموذجاً واحداً لما قلناه عن سياسة الصحة في الإسلام:

فقد كان المسلمون غالباً حسب أوامر الشريعة الإسلامية المتكررة والمؤكّدة يعمدون إلى تقليل كمية الدم من كل فرد في كل عام على الأقل مرة واحدة خصوصاً في أيام الربيع حيث يهيج الدم، تبعاً لتهيج كل ما في الكون من إنسان، وحيوان، ونبات، وأجهزة، وطاقات وغيرها.

وذلك بعملية –الحجامة- أو عملية –الفصد-(2).

وقد ورد في الأحاديث الشريفة أن تقليل الدم أمان من موت الفجأة، وكذا فهو أمان من السكتة القلبية. والشلل المؤدّي إلى ذلك.

ومما ورد في ذلك حديث شريف للإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام حيث قال: «الدم هو عبد وربما قتل العبد سيده»-3-.

ولكن الطبّ الحديث جاء ليمنع عن تقليل الدم منعاً باتاً وكان نتيجة ذلك ـ وغيره أيضاً ـ انتشار السكتة القلبية في طول البلاد وعرضها، ومن أقصاها إلى أقصاها).

وهكذا لاحظنا أن ترك الخبرات الصحية المتراكمة من االارث الاسلامي يتسبب بمردودات عكسية واضحة تتطلب إعادة النظر بالنظام الصحي الراهن الذي يشير الى فشل الجهات المعنية بتقديم الخدمات الصحية المطلوبة للمواطنين، وهذا ما جعل الفقير الذي لا يملك أموالا للعلاج يعاني من العلل والامراض اكثر من الثري بكثير ناهيك عن الخلل المؤشر أصلا في الانظمة الصحية القائمة الآن والتي تعتمد بصورة شبه كلية على أنظمة الغرب الصحية التي تأكد فشلها على أكثر من صعيد، وفي هذا الصدد يقول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه نفسه:

(وقد انكشف للطب الحديث ـ أخيراً وبعد أن راح ضحية هذا الخطأ الملايين من البشر موتاً بالسكتة القلبية ـ خطأ هذا الرأي، وأنّ النافع للبدن والصحّي للإنسان هو تقليل الدم.ومما نشأ عن ذلك توجيه الأطباء للناس النصيحة بتقليل الدم. ففي إحدى إذاعات دول الغرب ذكر أحد شخصيّات الطّب الحديث في خلال بحث له أنّ:

تقليل الدم، أو التبرع بالدم أمر صحي ضروري لكل إنسان، وهذا بدوره يمنع تصلب الشرايين الذي يؤدّي غالباً إلى تخثّر الدم، الذي يمهد الطريق إلى انسداد صمام القلب، وتوقف القلب، وبالتالي -السكتة القلبية-. وإنّ عملية -الحجامة أو –المشرط- التي كان المسلمون يزاولونها هي التي تركت نسبة الموت الفجائي فيهم قليلة ضئيلة).

إن هذه الملاحظات الهامة تشير بوضوح الى ضرورة أن يتبنى المسلمون نظاما صحيا مختلفا عما هو عليه الآن سواء من ناحية البنية الادارية للمنشآت والمؤسسات الصحية او طرائق العلاج التي قد تتنكر للخبرات الانسانية والاسلامية في هذا المجال، وبذلك يمكننا بالسعي والاخلاص أن نصل الى تبني نظاما صحيا ملائما لنا ومنبثقا من ارثنا وخبراتنا ومواهبنا وإمكانياتنا الراهنة في هذا المجال الحيوي. 

.................................................................

هامش:

(1)- الإحصاءات الحديثة في مختلف دول العالم توقفنا على المدهش كثيراً في هذا المجال. سواء في ذلك الدول الغربية، أو الشرقية، أو الدول النامية ـ كما يعبرون ـ.

وقد التقيت ـ أنا شخصياً ـ بطبيب خاص بعلاج (مرض السكري) في بلد صغير لا يعدو كل سكانه مليون نسمة، وكان الطبيب واحداً من عديدين يعالجون السكري، قال لي بالحرف الواحد: «إنني أعالج تسعة آلاف مريض مصاب بالسكري». هذا مع غض النظر عن ألوف الأمراض الأخرى، ومئات الأطباء الآخرين. وعلى هذه القصة الصغيرة فقس غيرها. وليس المقصود من ذلك التنقيص من قدر الأطباء ومهمتهم الإنسانية، فإنّ فيهم المؤمنين والأخيار والملتزمين بموازين الإسلام والإنسانية، يعرفون مسؤوليتهم أمام الله، وإنما المقصود بيان ضعف السياسة الصحّية المعاصرة.

(2)- الحجامة: هي إخراج الدم الفاسد بواسطة الممصّ ـ آلة المصّ ـ من العروق الدقيقة، والشعيرات الدموية المبثوثة في اللحم، بما من شأنه تصفية الدّم، ممّا يساعد على تنشيط الدّورة الدمويّة، وتوجب الرشد. والفصد: هو شق الوريد بإخراج مقدارً من الدم كما هو نقياً كان أو غليظاً، وكما أنّ الحجامة تنشّط البدن فالفصد يُضعفه.

(3)- عيون أخبار الرضا عليه السلام : ج1 ص85 ب22 ح11.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 13/تموز/2009 - 20/رجب/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م