شبكة النبأ: تحرص الأنظمة السياسية في
الشعوب والأمم المتطورة على تكريس دور المعارضة ورعايته وتطويره كونه
يشكل دعامة أساسية لحماية النظام السياسي من الاعوجاج والنكوص الذي
يقوده الى السقوط في آخر المطاف، بمعنى ان دور المعارضة في الانظمة
السياسية الديمقراطية الراسخة لا يصب في تعويق الحراك السياسي ولا يهدف
ابدا الى اسقاط الحكومات الجيدة، بل يتلخص هدف المعارضة بديمومة مراقبة
صنّاع القرار السياسي ومدى نجاحهم او اخفاقهم على الارض وتقويم
القرارات الخاطئة منها.
وهنا سنلاحظ أهمية هذا الدور في النهوض بالعملية السياسية وحمايتها
من الشطط من خلال المتابعة المتواصلة وفقا لآلية عمل المؤسسات
الدستورية التي ستؤدي أعمالها بحرية تامة كما ينبغي وتمارس دورها في
تقويم وتنظيم الحراك السياسي لتجعله على السكة الصحيحة على نحو متواصل.
من هذا الملخص عرفنا ما هو الدور الذي ينبغي أن تلعبه المعارضة في
تجارب الحكم الديمقراطية، وعرفنا أيضا ان غياب المعارضة يعني فيما
يعنيه إستئثارا بالحكم من قبل حركة او كتلة او حزب سياسي يقوم على مبدأ
الانفراد بالسلطة من خلال تكريسها بقبضة فرد (هو قائد الحزب) ما يتطلب
قمع الاصوات المغردة خارج السرب وبالتالي وصولنا الى نقطة الغياب الكلي
لدور المعارضة او خلق معارضة صورية لذر الرماد في العيون، ولكن ما هي
أسباب تغييب المعارضة او محاولات إضعافها؟.
إن مشكلة الأنظمة السياسية الفردية تتركز بخوفها من تأشير مكامن
الخلل في عملها السياسي وما سيتبعه من اخفاقات عدة تتركز في الجانب
الخدمي وتوزيع الثروات والمساواة في المداخيل المالية وما شابه، بمعنى
ان الخلل لن يصدر من المعارضة بل من ادارة الحكم الفردية التي تبدأ
بحالة الاستحواذ على كل شيء وإلغاء نهج المساواة والعدالة في توزيع
الفرص والثروات وحصرها بأفراد الحزب او الكتلة الحاكمة، من هنا تأتي
أهمية أن يكون الحكم ديمقراطيا داعما للمعارضة التي تصوّب الاخطاء
وتراقب الزلل لتشكل حماية دائمة لنظام الحكم وتؤدي دور الموجه والمنبه
على الاخطاء والحث على تصحيحها، وفي احيان كثيرة تشكل المعارضة حكومة
ظل داعمة للحكومة الأصل، وبهذا تكون عنصر إدامة وتصحيح ومراقبة إيجابية
تهدف الى قمع النفوس (الحاكمة) التي قد تحاول الاستئثار بالسلطة
وامتيازاتها وتحصرها بحزبها او الافراد المقربين من قادتها كالبطانة
والحاشية وما شابه، ناهيك عن إيماننا بأن الانظمة السياسية التي تدعم
المعارضة وترعاها وتنظر لها بعين الشراكة الايجابية لا بعين العدو
المتربص بالحكم، هي الانظمة الاكثر تطورا وقدرة على السموع بشعوبها
وأممها الى مصاف الدول الحكيمة المتطورة.
في حين يعني غياب المعارضة تخلفا سياسيا مقيتا وخوفا من السقوط
والطرد الحتمي من كرسي الحكم وما يتبعه من فوائد ومصالح متعددة، وهو
أمر تنبذه التجارب الديمقراطية الناجحة، لذلك غالبا ما نلمس شيوع (حس
المؤامرة) بين الاحزاب السياسية التي لا تؤمن بوجود الصوت المعارض
لأنها ترى فيه مصدر خطر يهدد امتيازاتها، وبدلا من رعاية هذا الصوت
كونه يمثل العين الصائبة التي تؤشر مكامن الخلل السياسي والاداري الذي
يحدث هنا او هناك، فإن مثل هذه الاحزاب التي تنزع الى الاسلوب الفردي
في الحكم ستجعل من هذه العين المراقبة الراصدة المصحِّحة، عينا منافسة
و(متآمرة) وهي برأيهم ووفقا لنظرتهم لا تبغي التصحيح والتصويب المخلص
بل هدفها الوصول الى كرسي الحكم ومنافعه (الجديرة بالنضال؟!!).
وهنا تحديدا تكمن المعضلة التي تعاني منها الشعوب والامم المتخلفة،
ويتضح ذلك البون الشاسع بينها وبين الامم المتطورة التي تصنع المعارضة
قبل أن تصنع أنظمة حكمها.
ولذلك سيظل مبدأ صنع المعارضة السياسية ودعمها ورعايتها من صفات
وركائز الامم المتطورة، فهي تبحث بصورة مؤسساتية دستورية متواصلة عن
كيفية صنع أصوات وعيون معارضة تقف بالمرصاد للنظام السياسي كأفراد أو
كمؤسسات وتراقب أنشطتها كافة وتمحّص قرارتها بدقة العارف المصيب وتؤشر
الزلل وتطرح رؤى التصحيح ومنافذ الحلول وقد يصل الأمر بالدعوة والعمل
على إزاحة النظام السياسي الذي لايمتلك القدرة على تلافي الاخطاء ولا
يتحلى بإرادة التصحيح والعزوف عن القرارات التي قد تلحق ضررا جسيما
بالبنى الحياتية للشعب.
وقد يتساءل البعض لماذا المعارضة ؟!! وهنا نقول إن أهمية المعارضة
السياسية يمكن أن تتلخص بالنقاط التالية:
1- إنها تشكل ملمحا هاما من ملامح النظام السياسي القائم في هذا
البلد او ذاك، وهي بالتالي تعطي صورة دقيقة على درجة تطور التجربة
السياسية او ضمورها.
2- يمكن أن تتحدد شرعية النظام السياسي القائم وفقا لقوة المعارضة
او ضعفها.
3- يمكن ان تشكل المعارضة قوة او ضعفا مؤشرا على درجة تطور هذه
الامة او تلك ليس في الجانب السياسي حصرا بل في الجوانب الحياتية
الاخرى ايضا.
4- تتوقف قوة النظام السياسي على مدى قبوله بالمعارضة ودعمه لها
إنطلاقا من حرص النظام على رقابة وتصحيحات المعارضة نفسها، وبهذا الفهم
تتحول المعارضة الى مصدر قوة للنظام بدلا من ان تكون مصدر تهديد
لإزالته.
5- غالبا ما تكون الاصوات المعارضة مصدرا للتصويبات الصادقة، فإذا
كان النظام السياسي مؤسساتيا سليما سيرى بالمعارضة مصدر قوة له.
6- من حسنات المعارضة الحقيقية انها ترفض الاحادية والشمولية وتعمل
بصورة حثيثة على بناء دولة المؤسسات.
وهكذا يبدو لنا جليا الدور الهام الذي تتكفل به المعارضة، مثلما
تبدو لنا أهمية ان ترعى الانظمة السياسية مقومات المعارضة وترسيخ دورها
الفاعل في بناء تجربة ديمقراطية لا تقوم على الحس او التصور الفردي
الرافض لرؤى وتصورات الآخرين الهامة حتما. |