سعادة الانسان بين السعي والتوافق مع الذات

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: من طبائع الانسان المعروفة والمتفق عليها بين المتخصصين وعامة الناس، انه غالبا ما يبحث عن سعادته طالما كان موجودا على قيد الحياة، بل ربما تكون من أهم اولويات الانسان هو السعي والوصول الى درجة السعادة المبتغاة من لدن الجميع، في وقت لم يقف أحد ما او تشريع او عرف او قانون ضد هذه الرغبة الانسانية، بل هي متاحة ومباحة للجميع ولكن وفقا لظوابط متفق عليها سواء في التشريعات السماوية او الوضعية او حتى الاعراف والتقاليد والنواميس البشرية وما شاكل ذلك.

غير أن الطريق الى السعادة لم يكن سهلا أمام الانسان، فهو مرتبط بمقومات وعوامل عدة ينبغي التعامل معها بحنكة والتفوق على مصاعبها كي يصل الانسان الى حالة التوافق القصوى مع الذات، وهذا يعني قبول المرء بما يتعرض له أثناء حياته من مصدات وعوائق متعددة الاشكال والمصادر، ومنها المصاعب القدرية التي تفوق قدرة الانسان على التحكم بها مثل الموت او التعرض الى حوادث مهلكة ليس له القدرة على تلافيها او مواجهتها كونها خارجة عن قدرته البشرية، لذلك يقول سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي في كتابه القيّم الموسوم بـ (العلم النافع):

(لا ينبغي أن نعبّس أو تضيق صدورنا أو نحزن بسبب تموّجات الحياة، بل يجب أن نعمل بوظيفتنا في كلّ الأحوال ـ سواء الصعبة أو السهلة ـ وأن نعتبر ذلك امتحاناً إلهياً لنا).

بمعنى أن التوافق مع النفس مطلوب في كل الأحوال، غير ان هذا الامر ليس من البساطة بحيث يكون متاحا امام الجميع، لأن المسألة تتعلق بمدى قوة إيمان الانسان ودرجة قدرته على قبول الوضع الذي يعيشه مهما كانت درجة صعوبته، كونه يمر في حالة امتحان متواصلة طالما كان على قيد الحياة، فالدنيا كما هو متفق عليه بين الاديان السماوية كافة، هي قاعة امتحان كبيرة، تتطلب من الانسان الذي يأتي هذه الحياة أن ينجح فيها، ولعل نجاحه يتعلق تماما بدرجة إيمانه وتحمله لكل ما يتعرض له من حوادث منغصة لحياته، فالامر ببساطة يتطلب الصبر المتأتي من حالة التوافق والقبول بما قسمه الله تعالى لهذا الانسان او ذاك، وفي هذا الصدد يقول المرجع الشيرازي في كتابه نفسه:

ان (كلّ الذين وفدوا إلى هذه الحياة إنّما وفدوا من أجل الامتحان، لا فرق في ذلك بين الشيخ والشابّ والرجل والمرأة والغنيّ والفقير والعالم والجاهل... قال الله تعالى في كتابه الكريم: لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) -1-.

ومع ذلك هناك مساحة واسعة متاحة للفعل والتفكير الانساني والارادة الخلاقة التي لا تستسلم للعثرات او المصائب التي تحل بها، فصلابة الانسان مطلوبة في كل الاحوال طالما انه يعيش هذه الحياة التي شُبّهت بقاعة الامتحان الدنيوية الكبيرة، ذلك لأن الارادة المؤمنة هي جزء لا يتجزأ من النجاح في هذا الامتحان، بمعنى ان التراجع والنكوص والانهزام تجاه مصاعب الحياة سينم عن ارادة ضعيفة وهذه بدورها تنم عن إيمان ضعيف وبالتالي فشل في الامتحان نتيجة لقلة الايمان.

فالسعي نحو السعادة وفقا للسبل والطرائق المشروعة لا يشكل خللا في توجهات الانسان لاسيما اننا نتفق بأن السعادة تنبع من التوافق بين الانسان ونفسه، وان هذا لا يتحقق إلاّ من خلال الايمان العميق والصادق الذي يتأتى من التمسك بالمبادئ السماوية التي قدمتها الاديان على شكل كتب مقدسة للانسان وخاتمها القرآن الكريم الذي جاء بوصفات دنيوية وأخروية تحفظ للانسان كرامته وتحقق له سعادته في الدنيا والآخرة فيما لو التزم بها وعمل وفقا لتعاليمها ومبادئها، إذن نستطيع القول ان الدين لايمنع الانسان من السعي وبذل الجهد لتحقيق النجاح، وفي هذا المجال يقول سماحة المرجع الشيرازي:

(لا شك أنّ الرضا بالتقدير الإلهي لا يعني أبداً أن لا نخطو من أجل حلّ المشاكل ورفع النواقص بأن نحجم عن الاستفادة من الوسائل والأسباب الظاهرية والدعاء والتوسّل وغير ذلك، بل المقصود من الرضا بالتقدير الإلهي هو التسليم إزاء الأمور الخارجة عن إرادتنا. فإذا كنّا كذلك فإن تقلّبات الحياة ومصاعبها لن تثنينا أو تعصرنا ولا نصاب بالإحباط والكآبة؛ ومن هنا أيضاً نفهم وصف المؤرّخين للإمام الحسين سلام الله عليه في يوم عاشوراء أنّه كان يزداد وجهه إشراقاً كلّما سقط شهيد من أسرته وأصحابه) -2-.

وهنا يرتبط الامر بدرجة الوعي وقوة الايمان التي يتمتع بها الانسان، ولعل العلاقة هنا ستكون طردية تماما، فكلما كان ايمان الانسان قويا كانت قدرته على تحمل الصعاب والمصائب قوية ايضا ويصح العكس، كما ان الايمان ومخافة الله سبحانه وتعالى لا تعني أبدا أن يظل الانسان معتكفا في بيته عازفا عن العمل والانتاج والتفاعل بل كل هذا مطلوب منه (فالعمل عبادة) لكن الجانب المهم هنا، هو أن يتحلى الانسان بالنزاهة في العمل وأن يكون الايمان الحقيقي هو المحرك بل المسيطر على كل أنشطة الانسان لأنه في هذه الحالة لن يخطأ ولن يتجاوز على أموال غيره ولن يرتكب الحماقات مع الآخرين وبالتالي سيكون راضيا عن نفسه وداعما لايمانيه ومتأكدا من أن الله سبحانه وتعالى ينظر الى اعماله الصحيحة الخالية من التجاوزات ايا كان نوعها وبالتالي سيصل الى السعادة الحقيقية التي منبعها الايمان والارادة الانسانية المستمدة منه.

ولذلك فإن السعادة لن تكمن ابدا في سعة الثروة وكثرة الاموال وقوة الجاه وما شابه، بل تكمن بتوافق الانسان مع نفسه الصالحة اولا وأخيرا، وهنا يقول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه الثمين هذا:

(ليست سعادة الدنيا في أمور زائلة كالثروة أو البيت الواسع وغيرهما بل بامتلاك قلب واسع مطمئنّ؛ راض عن قسم الله تعالى).

...................................................................................

هامش:

1-  سورة يونس: الآية: 14.

 2- قال عبد الله بن عمار بن عبد يغوث في وصفه للإمام الحسين عليه السلام: ما رأيت مكسوراً قط قد قُتل ولده وأهل بيته أربط جأشاً منه. انظر مثير الأحزان لإبن نما: ص54، المقصد الثاني: في وصف موقف النزال وما يقرب تلك الحال.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 5/تموز/2009 - 12/رجب/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م