30 حزيران يوم مشهود في تاريخ العراق

من الذي صنعه؟ وكيف؟

نزار حيدر

ستتذكر الاجيال المتعاقبة في العراق هذا اليوم، بفخر واعتزاز، وفي نفس الوقت بتساؤل:

لماذا سجل التاريخ هذا اليوم؟ ومن الذي صنعه؟ وكيف؟.

اولا: ان هذا اليوم هو بداية عهد جديد للعراق والعراقيين، ففي هذا اليوم ستخلو المدن العراقية من القوات الاجنبية، وستتحول مهام ضبط الامن الى العراقيين بالكامل، على ان يعقب هذا اليوم، ايام لاحقة لاستكمال السيادة الوطنية، تم تحديدها وتثبيت تواريخها في الاتفاقية الاستراتيجية التي وقعتها بغداد مع واشنطن نهاية العام 2008 المنصرم.

بمعنى آخر، فان هذا اليوم هو بداية النهاية للاحتلال الاجنبي للعراق، الذي تسببت به سياسات النظام الشمولي البائد، التي ظلت تزج العراق وشعبه بحروب عبثية الواحدة تلو الاخرى، حتى انتهت الى احتلاله من قبل القوات الاجنبية بقرار دولي صدر بالاجماع عن مجلس الامن الدولي، كانت قد وافقت عليه حتى المجموعة العربية التي كانت ممثلة في مجلس الامن الدولي آنئذ بالجمهورية العربية السورية.

ان ما بعد هذا اليوم، ايام طويلة اخرى، تحتم على العراقيين الاستمرار في النضال السياسي والديبلوماسي، من اجل انتزاع السيادة الوطنية بالكامل، خاصة ما يتعلق بموضوع اخراج العراق من تحت طائلة البند السابع، والتي تسعى دول (جارة) الى عرقلة جهوده بهذا الصدد، ليبقى محبوسا في القفص، لا يقوى على البناء والتقدم والتطور والاستقرار.

ثانيا: ان الذي صنع هذا اليوم هو الشعب العراقي فقط، دون غيره، بصموده وتحمله وصبره، وبتشبثه بسياسة النفس الطويل، فلو كان العراقيون قد انجروا الى اتون الحرب الاهلية التي حاول ان يجرها اليه الارهابيون التكفيريون والذين تحالفوا مع ايتام النظام البائد، والمدعومون بفتاوى التكفير واموال البترودولار والاعلام الطائفي الحاقد والتسهيلات اللوجستية الكبيرة التي تقدمها لهم اسر وانظمة حاكمة واجهزة استخبارات اقليمية ودولية، لما شهدنا هذا اليوم ابدا، على الاقل ليس في الزمن المنظور.

لقد تكالب الجميع على هذا الشعب الابي لتوريطه بكل ما يمكن ان يكون سببا لتدميره، واذا بالعراق يتحول الى كتلة من النار تتدحرج وتكبر يوما بعد آخر، عندما تعاون الجميع على فتح حدوده مع العراق لتنساب مجموعات العنف والارهاب الى داخله بلا رقيب، وهي تحمل الموت والدمار للشعب، وفوق رؤوسها تتحرك كاميرات التصوير لتلتقط صور (البطولات) المزيفة لتنشرها للعالم كاعمال مقاومة يهتدي بها اصحابها الى جنان الخلد، وهي ليست الا عبارة عن صور القتل والتدمير والذبح وحز الرؤوس وقطع الرقاب وتدمير البنى التحتية.

ولقد كانت ذروة التحدي، بتفجير الارهابيين لمرقد الامامين الهمامين العسكريين، عليهما السلام، في مدينة سامراء البطلة، لتتصاعد وتيرة الحرب الطائفية والقتل على الهوية كرد فعل من الضحية على افعال الجلادين القتلة.

هنا شخص دور المرجعية الدينية الرشيدة، وعلى راسها المرجع السيستاني، التي وقفت مسؤولة، بكل شجاعة واخلاص لتتحدى قرار التدمير، فتمنع العراقيين من الانجرار وراء مخططات القتلة والمجرمين، فحالت، وبامتياز، بين العراق والحرب الاهلية، بالرغم من عظم الخطر ودموية المشهد، الا ان تقديمها للمصلحة العليا على اية مصلحة اخرى، هو الذي انقذ الموقف والحمد لله.

انه يوم عراقي بامتياز.

ثالثا: اما الارهابيون الذي يسمون انفسهم بـ (المقاومة) فهؤلاء لا يحق لهم ان يتكلموا عن اي دور مزعوم في انجاز هذا اليوم، بل العكس هو الصحيح، فان لجوئهم الى السلاح ساهم بدرجة كبيرة في تاخير انجاز هذا اليوم، اذ ظلت اعمالهم الاجرامية تقدم الذريعة تلو الاخرى للقوات الاجنبية للاستمرار في البقاء في داخل المدن العراقية، على الاقل.

بل، لقد كشفت اعمالهم الاجرامية الاخيرة، عن امانيهم في بقاء القوات الاجنبية داخل المدن العراقية، لحاجة في انفسهم يريدون قضاءها، والا فان الحريص على تحرير بلاده، يعمل المستحيل لتسهيل خروج هذه القوات من بلاده، وليس العكس، فهو لا يمارس القتل ضد الابرياء وتفجير البنى التحتية، لان ذلك يدفع بالقوات الاجنبية الى التشبث والبقاء بحجة زعزعة الوضع الامني وعدم استقراره بعد، اليس كذلك؟.

كما ان الحريص على استقلال بلاده، لا يقتل الجندي والشرطي وعناصر القوى الامنية العراقية، اذ كيف يمكن ان يتصور خروج القوات الاجنبية من بلاده، وليس هناك قوة وطنية جاهزة لتسلم الملف الامني منها؟ انه التناقض الذي وقعت فيه قوى الارهاب والظلام، والذي كشفها على حقيقتها وعرى اهدافها، بعد ان فضح وسائلها غير الشريفة.

لقد ظلت هذه القوى المشبوهة تتستر باسم الدين وبكل تسمية شريفة، وهي تمارس القتل والتدمير ضد العراق والعراقيين، وبتغطية مباشرة من الاعلام الطائفي الحاقد، فخدعت المغفلين الذين نجحت في اصطيادهم في شباكها الماكرة، لتجندهم حطبا في نيران حقدها، الا ان الله تعالى الذي يمهل ولا يهمل، ظل يستدرجها حتى اوقعها في فخ الحقيقة، فلم تعد اليوم تمتلك ما تتستر به، بعد ان فضحها الله تعالى ودماء العراقيين وجثثهم الطاهرة المتطايرة في كل صوب واتجاه.

رابعا: ان كل الذين مارسوا العمل السياسي كطريق لمعارضة وتحدي الاحتلال، ساهموا بطريقتهم في انجاز هذا اليوم، حتى اولئك الذين ظلوا يعارضون توقيع العراق للاتفاقية الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الاميركية، الى آخر المطاف، ساهموا في انجاز هذا اليوم، فلولا معارضتهم لظهر العراقيون وكانهم منبطحون امام واشنطن وشروطها، يقبلون بكل شئ، من دون ان يعترضوا على شئ، ما كان يسبب في ان تاتي الشروط والنتائج والمنجزات ضعيفة.

لقد تكاملت ادوار العراقيين الذين واجهوا الاحتلال، كل بطريقته السلمية، والتي اعتمدت السياسة والديبلوماسية، حتى تحقق على الانجاز.

خامسا: منذ هذه اللحظة، فان كل من يطلق رصاصة في العراق، سيعلن هويته على العراقيين، ويكشف عن حقيقته، انه ضد العراق ولا يحب الشعب العراقي، بعد ان زالت كل الذرائع التي كان يتشبث بها البعض لحمل السلاح، فلا قوات اجنبية في المدن، ولا احتلال اجنبي فيها، فلماذا السلاح اذن؟.

ان على من يحب العراق ان ينصرف منذ الان الى المشاركة في اعادة بنائه، بعد ان يساهم في توطيد الامن والاستقرار من خلال التعاون مع القوات الامنية العراقية التي ستنتشر في المدن بعد رحيل القوات الاجنبية.

سادسا: الشئ المهم الذي يجب ان ينتبه اليه العراقيون، هو ان القوات الاجنبية لم تترك العراق بالكامل في هذا اليوم، فهي لا زالت على مشارف مدنهم، ولذلك، يجب ان يحولوا دون عودتها الى داخل مدنهم، وذلك من خلال اغلاق كل الابواب التي قد تتسرب منها مجموعات العنف والارهاب للعبث بامنهم، وامن مدنهم، لاعطاء الذريعة للقوات الاجنبية للتدخل مرة اخرى في الملف الامني.

لقد كشف اكثر من مسؤول عراقي عن نية المملكة العربية السعودية، على وجه التحديد، في اطلاق مشروع تدميري جديد ضد العراق يرمي الى زعزعة الامن في المدن العراقية لتبعث برسالة الى الراي العام، والى واشنطن، مفادها فشل القوات العراقية في مهام الامن والدفاع، لتعيد واشنطن النظر في قرارها الالتزام بالجدول الزمني المتفق عليه مع بغداد.

ان على العراقيين ان يميطوا اللثام عن مثل هذا المخطط لافشاله، فنجاح القوات الامنية العراقية متوقف اولا واخيرا على تعاون العراقيين معها، ولذلك يجب ان يتعاون العراقيون لانجاز هذا الملف المهم، الذي يعتبر العصب بالنسبة لكل الملفات الاخرى، وكلنا يعرف كيف ان المتربصين بالعراق الذين لا يريدون ان يرونه معافى من جراحه، ليبقى مدمرا ومحطما ومتخلفا، يعبثون بالملف الامني، ليقينهم بان عدم الاستقرار الامني يفضي بالعراق الى عدم الاستقرار والتقدم في كل الملفات الاخرى.

انهم يريدون ان تبقى القوات الاجنبية في المدن العراقية، لانهم يعرفون جيدا ان ذلك بمثابة عنصر توتر وقلق لا يساهم في استقرار العراق ابدا، ولذلك سنراهم يفعلون كل شئ من اجل زعزعة الامن في المدن، وتاليا (اجبار) القوات الاجنبية على العودة اليها، ولقد باتت ارهاصات مساعيهم بهذا الصدد واضحة للعيان خلال الاسبوع الاخير.

سابعا: على الحكومة العراقية ان تراقب عن كثب تصرفات القوات الاجنبية المنسحبة، لتتاكد من انها ملتزمة بشكل دقيق بالاتفاقيات الامنية والعسكرية المنصوص عليها في بنود الاتفاقية الاستراتيجية، فلقد تناهى الينا ان واشنطن ستسعى للالتفاف على الاتفاقيات بكل طريقة (قانونية) ممكنة، من خلال التلاعب بتفسير النصوص او الالتفاف على معانيها الواردة في الاتفاقية والبروتوكولات المرفقة معها، او من خلال استبدال عناوين عناصرها المتواجدة في العراق، بما يجنبها الملاحقة القانونية وما اشبه.

لقد كان من المفروض، مثلا، ان لا تنفذ القوات الاجنبية اية عمليات عسكرية في داخل المدن بحلول الاول من كانون الثاني من هذا العام، الا بطلب من الحكومة العراقية، ولكنها ظلت تخرق الاتفاق، فنفذت اكثر من (50) عملية عسكرية في بغداد وحدها خلال الـ (6) اشهر الاولى من هذا العام، من دون علم الحكومة العراقية والاجهزة الامنية والوزارات المعنية.

نتمنى ان لا تتكرر مثل هذه الخروقات التي لو استمرت فستعيد الوضع، ربما، الى المربع الاول، وهذه مسؤولية الحكومة العراقية التي يجب ان تتعامل بكل حزم وشدة وانتباه، مع القيادة العكسرية الاجنبية في العراق، كما ان عليها ان تتعامل بكل شفافية مع العراقيين فتعلمهم باي خرق تقدم عليه القوات الاجنبية، لتزيد من رصيد الثقة عندهم، فيبادرون الى التعاون معها من اجل تحقيق الانجازات الامنية المطلوبة في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ العراق الحديث.

ثامنا: لقد لعب المفاوض العراقي دورا مفصليا في انجاز هذا اليوم، من خلال اصراره على الحفاظ على المصالح العليا للبلد وشعبه، بالرغم من كل المعوقات الداخلية والخارجية التي ظلت تعرقل عمله، الا انه نجح، مدعوما بالموقف الشعبي الوطني المؤازر، في تحقيق الحد الاعلى من الاهداف المرسومة له.

ومن اجل ان يسقط العراقيون كل رهانات الاعداء، فان على الفرقاء، تحديدا، التعاون فيما بينهم، والاحتكام الى الدستور والقانون، لحل اي خلاف بينهم، من دون تشنج او تازيم للمواقف او الاستفراد في تبني الحلول، خاصة للقضايا المتنازع عليها.

تاسعا: على العراقيين، بعد هذا التاريخ، ان يغيروا من طريقة تعاملهم مع الولايات المتحدة الاميركية، الحليف الاستراتيجي الجديد للعراق، بنصوص الاتفاقية الاستراتيجية، ولذلك فان عليهم، كمؤسسات دولة ومنظمات مجتمع مدني، ان يجتهدوا من اجل العمل على تفعيل بقية البنود المتعلقة بالاقتصاد والتعليم والصحة والابحاث والتكنلوجيا والاستثمار، وغير ذلك من القضايا التي تدخل في صلب موضوعة اعادة البناء والاعمار.

ان هذا اليوم يعد بداية النهاية للملف العسكري والامني بين العراق والولايات المتحدة الاميركية، وبقي على العراقيين تفعيل بقية الملفات التي ظلت مهملة طوال هذه المدة، من اجل استثمار الاتفاق الاستراتيجي، على احسن وجه.

عاشرا: ان على العراقيين ان يستذكروا الشهداء والمعوقين وذوي الضحايا الذي فقدوا حياتهم وارواحهم وهم يتصدون للارهاب بكل فخر واعتزاز ومحبة للعراق وشعبه الابي، خاصة ضحايا القوات المسلحة، هؤلاء الشهداء الذين يجب ان يبني لهم العراقيون نصب تذكارية تخلد مآثرهم وتضحياتهم، هؤلاء الذين مدوا اجسادهم جسورا ليعبر عليها العراقيون الى شاطئ الامان والاستقرار، فلولاهم ولولا تضحياتهم، لما شهدنا هذا اليوم العراقي التاريخي العظيم.

تحية اكبار واجلال لكل شهداء العراق. 

وتحية اكبار واجلال لاسر الضحايا.

وتحية اكبار واجلال واحترام لكل الجنود المجهولين من منتسبي القوات المسلحة بكل اصنافها، الذين يسهرون من اجل امن الوطن، وحياة المواطن.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 1/تموز/2009 - 8/رجب/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م