الخطاب الديني الإسلامي: الواقع والآفاق

مشتاق بن موسى اللواتي

حين نتحدث عن الخطاب الإسلامي فلا نعني قصر مفهومه على النواحي اللغوية والأساليب التعبيرية والإنشائية أو الجوانب الفنية في الصياغة والإلقاء. بل إلى جانب ذلك فإن تركيزنا بالدرجة الأولى ينصب على البنية الفكرية والمنهجية والمضمونية لهذا الخطاب.

إن المتابع لخطابنا الديني الإسلامي يلاحظ إن إهتماماته بدأت تضيق في العقود الأخيرة. فقد أخذت مساحة القضايا المعاصرة تتقلص، كما بدأت مسألة ترسيخ الإلتزام الديني الواعي المنفتح على متطلبات العصر تنحسر وتتراجع من سلم أولوياته.

 إن بعض العناوين الهامة تكاد تكون مغيبة عن تناوله أولا تحظى بالحصة الكافية التي تستحقها مقارنة بغيرها. وعلى سبيل المثال، نشير إلى بعضها: المشروع الإسلامي للحياة، ماذا يقدم الإسلام لمعالجة مشكلات البشرية؟ إدارة الإختلاف الفكري، التقارب والتحاور والتعايش بين المسلمين، العلاقة مع الآخر غير المسلم، مراجعة فقه المرأة والعلاقة بينها وبين الرجل، دورها الإجتماعي والسياسي والفكري، ما الذي يقدمه الفقه الإسلامي لرفع التعسف في تعامل الرجل معها؟ نظرية الحكم في الإسلام، الشورى والولاية والديمقراطية، الإجتهاد والتجديد، مواكبة الفقه الإسلامي لمتغيرات الحياة، تأثير الزمان والمكان في الإجتهاد الفقهي، مراجعة مناهج الإجتهاد ومبانيه، تأصيل العلاقة بين الفقه ومعطيات العلم، الثابت والمتغير في الفكر الإسلامي، مسألة العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية والحريات وحقوق الإنسان وكيف تتجلى في الفقه الإسلامي، تأصيل مسألة المواطنة وتكييفها الفقهي الشرعي، الموقف من العولمة بالأخص في شقها الثقافي والإجتماعي، علاقتنا مع الغرب ونظرتنا إلى الغرب السياسي والفلسفي والحضاري، المثاقفة والإقتباس والإختراق الثقافي، الفكر الإجتماعي لأهل البيت (ع)، إسهامات أهل البيت في تصحيح المسار الفكري الإسلامي، كيف نتعامل مع تراثنا الفقهي الأصولي والرجالي والتفسيري والكلامي والفلسفي والتاريخي؟ وما إلى ذلك من قضايا ومفاهيم فكرية حيوية. 

لقد استغرقت منابرنا ونتاجاتنا الفكرية في الشأن الفردي الضيق وطغت عليها النظرة الفردية وغلبت على إهتماماتها مشكلات الفرد المسلم بدلا من البحث في الأزمات المجتمعية العامة التي ولدتها الحياة المعاصرة بمؤثراتها ومكوناتها المتنوعة.

 إن جانبا من المعالجات الفقهية المعاصرة تتجه لحل المشكل الفردي المحدود وذلك بتقديم تخريجات وحلول ثانوية وحيل لرفع أوتخفيف الحرج عن كاهل الفرد المسلم ليوائم في الحدود الدنيا بين ضغوطات الحياة ومستوجبات الإيمان. وهناك اتجاهات تكرس المواقف السلبية وتتحسس من كل جديد وتؤثر الإنكفاء تحت دعاوي سد الذرائع ودرء الفتنة وما شابه.

 إن رسائلنا العملية الفقهية على أهميتها الوظيفية وعظم الدور المرتجى منها، لا تكاد تؤدي إلا جزء يسيرا من دورها، بسبب صياغاتها الجامدة وتعبيراتها المغلقة. فعلى الرغم من انها أعدت لتخاطب الجماهير المسلمة غير المتخصصة في علوم الفقه والأصول، أو لنقل إن أغلب المتلقين والمتعاملين معها هم من الناس العاديين أومن العوام، ومن ثم فهم لم يألفوا على التعامل مع اللغة الفقهية العلمية ولم يعتادوا على فهم مصطلحات الفقهاء وأساليبهم في الكتابة، ومع ذلك نجد ان كثيرا من هذه الرسائل تغفل هذا الحقيقة، الأمر الذي يجعل المسلم العادي يواجه صعوبة غير عادية في فك ألغازها وتفسير رموزها، من قبيل: يجوز فعل كذا والأحوط تركه. وهو يعني الجواز، والترك المذكور هو على نحو الإحتياط الإستحبابي لأنه مسبوق بفتوى الجواز ! أو الأحوط الإتيان بفعل كذا. ويعني عليه فعله من باب الإحتياط الوجوبي، لأنه غير مسبوق بفتوى ولا ملحوق بفتوى ! وهكذا بالنسبة للظاهر والأظهر وما فيه تأمل أو يجوز على تأمل وما شابه، مما لا يشجع الأفراد العاديين لكي يقبلوا عليها.

قد يقال بأن على المسلم الحريص على فهم أحكام دينه أن يتعلم تلكم الأحكام ويتمرس في التعامل مع هذه الأساليب. وهذا قد يكون صحيحا، ولكنه مع ذلك لا يسهم في جعل الرسالة العملية الفقهية في متناول الجميع. ولهذا نقول ما الذي يمنع المعنيين بهذه الرسائل من أن يعدوها بأساليب واضحة وتعبيرات سهلة وأمثلة معاصرة مفهومة بحيث تجذب أكبر قدر من الناس إلى قراءتها وتعينهم على فهمها واستيعابها تمهيدا لتطبيقها؟ إن من الضرورة بمكان متابعة الرسائل العملية وتحديثها بصورة مستمرة، واستكمال بيان الموقف الشرعي من المعاملات الحديثة والقضايا المستجدة الكثيرة فيها، حتى تغدو مستوعبة لأكبر قدر من المسائل الفقهية التي يحتاج إليها الناس في هذا العصر.

وإذا انتقلنا إلى المشكلات الأسرية والتربوية، فنلاحظ إن كثير من المقاربات فيها يغلب عليها الطابع النظري التجريدي وتقتصر على المنحى النصائحي والوعظي، وتخلو من التحليل والبحث المتعمق لوضع اليد على العوامل المسببة لها تمهيدا لمعالجتها.

وأضحت المسألة العقدية تعرض في كثير من الأحيان لدحض الفكرة المخالفة أورد ما يعرف بالشبهات والتساؤلات المضادة وطبقا لمنهج الإلزام والإفحام، وفي بعض الأحيان، تجدها مستغرقة في تطويع بعض الفلسفات الوافدة وتطبيعها بالطابع الإسلامي.

 أما تاريخ المسلمين فلا ينظر إليه كمسيرة متحركة مغياة خاضعة لقوانين وسنن تاريخية إجتماعية، يتطلب وعيها واستيعابها والتعمق فيها لمواجهة التحديات المعاشة ودرء ويلات الفتن والصراعات المفتعلة. فتاريخنا كثيرا ما يطرح بوصفه مجرد حوادث ووقائع ماضية أنتجها أناس غلبت عليهم الخيرية والمثالية. فدرس التاريخ هو بمثابة رحلة إلى الماضي وليس بهدف التطلع إلى نظرة استشرافية للمستقبل في ضوء تجارب الماضيين واستنتاج الدروس والعبر من إخفاقاتهم ونجاحاتهم. أما الأزمات والصراعات الدموية التي عايشها تاريخنا، فإن تبعاتها ومسؤولياتها تلقى على كواهل أطراف خارجية وجهات أجنبية دخيلة على قاعدة الإستهداف والتآمر.

أما المناهج النقدية والبحثية التي أسهم أئمة الفقه والأصول والحديث والتاريخ في إنتاجها وتطويرها، فلا يكاد يعبأ بها في أحيان كثيرة، بل جل إهتمام الكتاب والباحثين ينصب على تحشيد المصادر وتجميع المنقولات دون تعريضها لأي تدقيق أو تمحيص أو غربلة أو نقد داخلي أو خارجي. وفي بعض الأحيان ينتقي الدارس منها ما يؤيد آراءه المسبقة ويرمي ما يخالفها بالشذوذ والمروق لمخالفتها لهذا الإتجاه الفكري أو ذاك.

على صعيد آخر، تنشغل كثير من المواقع الإكترونية الدينية في شبكات المعلومات، في استدعاء الخلافات والصراعات التاريخية، وتهرول المطابع ودور النشر باتجاه إحياء التراث الفكري والثقافي المتراكم منذ عصور الإجتهاد والجمود والإنحطاط، ودونما تمييز بين غثه وسمينه. وتتنافس معارض الكتاب على تقديم أدبيات التعامل مع الجان والمردة والسحرة ومعالجة العين وإبطال مفعول السحر وفك الطلاسم وحرقها وطب الأولياء، وتفسير الإحلام وتأويل الرؤى وفي عرض قصص العجائب والغرائب.

 إننا نسترعي نظر المهتمين بشؤون الثقافة والفكر في دولنا العربية والمسلمة بأن إغراق المجتمع بمثل هذه المواد يستبطن دعوة الأجيال إلى مغادرة الواقع الثقافي والسياسي والمعرفي الراهن، واستدعاء مشكلات السالفين وأزمات الماضيين لمعايشتها والإستغراق فيها وتمثل أدوارها.

 وفي المقابل تنشط مراكز البحث التي تبشر بالحداثة والعلمانية واللبرالية في إعداد دراسات تحليلية تمس قضايا فكرية وسياسية وإجتماعية وإقتصادية راهنة، وترفد المكتبة العربية بمركبات فكرية وفلسفية وقيمية معينة، بصرف النظر إن كانت تتفق مع ثقافة الأمة وقيمها وتنسجم مع دينها وأصولها. بل أخذت بعضها على عاتقها تقديم قراءاة وتأويلات مستندة على مزيج من فكر الإستشراق والحداثة وما بعد الحداثة للنصوص الإسلامية معتبرة إياها فتحا وتجديدا غير مسبوقين!

 من المؤسف ان أجيالنا لا تزال تبحث عن ضالتها الفكرية في الأعمال الفكرية لرواد النهضة ومن تلاهم من علماء ومفكرين مصلحين أمثال جمال الدين الإفغاني ومحمد عبده وشلتوت وكاشف الغطاء ومحمد حسين الطباطبائي وباقر الصدر والمطهري ومالك بن نبي والغزالي وشمس الدين. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، هو: هل يمكن القول بأن الفكر الإسلامي لم يتقدم كثيرا في بنيته المنهجية وأدواته البحثية واهتماماته عما تركه أولئك الرواد؟ صحيح لقد لمعت بعض الأسماء وبرزت بعض القامات الكبيرة في فضاء الفكر الإسلامي وفي سماء الإجتهاد الإسلامي، لكن مع كل التقدير لمجهوداتها، فإنها في المحصلة النهائية تظل فردية ومبعثرة في الغالب ولا تخلو من تكرار.

 ولا بد هنا من التنويه إلى أننا لا نهدف إلى التقليل من أهمية الإسهامات الفكرية – رغم محدويتها – التي تبذل من قبل بعض المؤسسات والمجامع العلمية والفقهية لإغتناء الفكر الإسلامي وإثرائه. ولكننا نود أن نسترعي نظر المعنيين بشؤون الفكر الإسلامي إلى عواقب إغفال الأسئلة الفكرية والمعرفية المعاصرة وتجاهل طرح الحاجات الفقهية الملحة للناس بالصورة الملائمة لخطاب وعقلية ومنهجية العصر.

 لقد غدا العالم متصلا إتصالا وثيقا عبر الأقمار الصناعية والفضائيات وشبكات المعلومات. إن هناك كثيرا من المشكلات والتحديات التي تواجه خطابنا الديني الإسلامي، سواء من حيث الشكل أو المضمون والكم أو النوع.

هناك العديد من الإشكاليات الفكرية التي تثور لدى الجيل المعاصر، وتسبب له كثيرا من القلق والإرتباك والحيرة، لأنها تلامس واقعه ووجوده ومستقبله ومصيره وهويته ووطنه ومجتمعه وأمته ودينه، وكيفية المواءمة بينها وبين متطلبات العولمة الزاحفة ومنظومة القيم والإنساق الإجتماعية التي تروج لها وأنماط العلائق والمفاهيم الثقافية التي تسعى إلى فرضها.

لقد حان الوقت لإنشاء مراكز بحثية متخصصة تستقطب الكفاءات المختصة في مختلف حقول الفكر الإسلامي من علوم القرآن والفقه والحديث والعقيدة وغيرها، إلى جانب بعض المجالات العلمية المساندة، إجتماعية وتربوية واقتصادية وقانونية وكذا مناهج البحث وفلسفة العلوم لدراسة واقع المسلمين عبر منهجيات علمية وباستخدام أساليب القياس وأدوات الرصد الحديثة لرسم صورة دقيقة عن مستوى الإلتزام والوعي وتحديد الإحتياجات الفكرية وتلمس الأسئلة والإشكاليات الفكرية والعملية المطروحة فيها.

إن على الحوزات العلمية والجامعات والمعاهد الإسلامية أن تأخذ على عاتقها فكرة الإنفتاح والإطلاع على مختلف المناهج الفكرية والبحثية بغية الإفادة من أحسنها، ودراسة مدى إمكانية إضافتها إلى إيجابيات وحسنات المناهج المعهودة لديها. إن المترقب من حوزاتنا العلمية لأن تعد العدة وتسعى نحو تخريج فقهاء مفكرين ومفكرين فقهاء يعنون ويهتمون بمختلف شؤون الفكر والفقه والثقافة والمجتمع، حتى يتسنى لهم تقديم نتاجات مبدعة وإجتهادات مستنيرة من شأنها أن تغني المناهج والعلوم الإسلامية وتحقق الثراء لعموم الفكر الإسلامي.

لقد غدا مهما إيجاد منتديات فقهية وفكرية وحلقات بحثية لتداول مختلف القضايا والمشكلات الفقهية والحياتية المستجدة بشكل مشترك بين أهل الفقه الشرعي وثلة مؤمنة من الخبراء والمختصين في بعض الفروع العلمية ذات العلاقة بالموضوات المبحوثة. إذا كان الإجتهاد الجماعي موضع جدل – حسب بعض المناهج - من ناحية مدى حجية نتائجه على مستوى التقليد، مضافا إلى كيفية التعامل مع إختلاف المباني والإتجاهات البحثية، فإن البحث والتداول الجماعي للقضايا المستحدثة – على الأقل - من شأنه أن يوصل إلى معرفة أعمق بالموضوعات الخارجية ودراية أوفر بالحوادث الواقعة والوقائع المتجددة، ومن ثم إلى رؤى ومقاربات فقهية وفكرية مدروسة بشكل مكثف.

إن المأمول من أهل الفقه والفكر والإجتهاد الإسلامي أن يقتربوا من واقع المشكلات والتحديات التي تعايشها مجتمعاتنا حتى يتسنى لهم أن يقدموا لها رؤى وإجابات ومقاربات ومعالجات تلامس الواقع المعاش.

إن إسلامنا يحمل مشروعا كاملا للحياة وقرآننا دستور شامل يقدم رؤية كونية تنسجم مع الفطرة وتوازن بين الروح والجسد وتوائم بين الدنيا والآخرة. فهل يقبل من الخطاب الإسلامي أن يقصر إهتمامه على جانب من الكتاب ويغفل الجانب الآخر؟

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 29/حزيران/2009 - 6/رجب/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م