حدود دولة القانون تبدأ من السجون

نزار حيدر

ان حدود دولة القانون تبدا من السجون، فاذا كان السجين يتمتع بكامل حقوقه ولا يتعرض لاية انتهاكات، كان حقا علينا ان ننعت الدولة بدولة القانون، والعكس هو الصحيح، فاذا كان المواطن يسجن على التهمة ويعتقل على الظنة، وعندما يسجن لا يتمتع باي حق من حقوقه القانونية التي كفلها الدستور، بل انه يتعرض لابشع انواع الانتهاكات، بدء من تعرضه للتعذيب النفسي والجسدي لانتزاع اعترافاته عنوة وبالاكراه، وانتهاءا باصدار الاحكام عليه ظلما ومن دون دليل، مرورا بحرمانه من اختيار محامي الدفاع  الذي يريده، فان ذلك دليل على ان هذه الدولة هي ليست بدولة قانون، وانما دولة الغاب، وهو الحال الذي تعيشه جل بلداننا العربية والاسلامية التي تحكمها الانظمة الاستبدادية الشمولية.

ان السجين هو اضعف حلقة في اي مجتمع، لانه في قبضة الدولة، وهو بلا حرية او ارادة، وهو لا حول له ولا قوة، حاله حال الطفل الصغير في العائلة (مع فارق الجوهر) والذي لا يملك ان يقرر او يتصرف، ولذلك فهو ادق ميزان يمكن ان نقيس عليه حقيقة اية دولة في هذا العالم، فاذا كانت كل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية اوصت بالطفل ما لم توص بمثله اي مخلوق آخر، لانه الحلقة الضعيفة في المجتمع، كذلك فان ذات الشرائع اوصت بالسجين بما لم توص بمثله لاي انسان آخر، لانه الحلقة الاضعف في المجتمع، كما اسلفنا، وان ما يؤسف له حقا هو ان السجين في بلداننا من اكثر الناس عرضة للتعدي على حقوقه، لانه خلف الاسوار ولا احد يعرف ماذا يجري عليه؟ وكيف يمر عليه اليوم؟ الا اللمم من الاخبار التي يتم تهريبها من خلف الاسوار بالصدفة، وبقدرة قادر، فهو، بهذه الحالة، تحت رحمة الجلاد، ومن يقف وراءه من المسؤولين.

لقد تحدثت تقارير كثيرة عن قضايا انتهاكات يتعرض لها السجناء في العراق، خاصة النساء والاحداث، وان بعضها تحدث عن انتهاكات جنسية، الا ان الحكومة العراقية ظلت، وللاسف الشديد، تتجاهل مثل هذه التقارير، حتى اذا طفح الكيل، اتخذت اليوم هذا القرار القاضي بتشكيل لجنة خاصة للنظر في احوال السجون، في بغداد وغيرها من المدن العراقية.

انه بلا شك قرار صائب، وان جاء متاخرا كثيرا، ربما بسبب الضغوط السياسية التي تتعرض لها الحكومة، جراء قوانين المحاصصة والتوافق وغير ذلك من الانظمة سيئة الصيت المعمول بها حاليا بين الفرقاء السياسيين، الذي يتقاسمون السلطة في بغداد.

كنا نتمنى ان تبادر الحكومة الى مثل هذه الخطوة فور تسرب اول تقرير عن مثل هذه الحالات، لان حال السجناء لا يحتمل التاخير، ولا يمكن ان نسوف في امر التحقيق بمثل هذا الامر، فكرامة الانسان السجين بين يدي الحكومة، ولذلك فان من الخطا، بل من الجريمة، ان تتداخل قضايا السجناء بالملفات السياسية، كالتوافق والمحاصصة والحزبية وما الى ذلك، لان تداخل مثل هذه الملفات يهدد استقلالية القضاء ويعرقل اجراء العدالة، كما انه يضع العصي في عجلة بناء دولة القانون.

يجب ان تكون السجون في دولة القانون، اماكن لاعادة صقل الانسان المذنب، واعادة هيكلة نفسيته وشخصيته التي تلوثت بجريمة، او كادت، من خلال تربيته وتعليمه، ومن ثم لاعادته الى المجتمع عنصرا صالحا ونافعا، بعد ان كان قد اخطا، فتجاوز على حقوق مجتمعه، وكل هذا لا يمكن ان يكون اذا كان السجن محطة لانتهاك حقوق الانسان والتجاوز على كرامته والاعتداء على خصوصياته، فان مثل هذه الظروف، ستحوله الى وحش كاسر يفكر بالانتقام لحظة ان تتسنى له اول فرصة.

يجب ان يشعر السجين بحقوقه ويتمتع بها ليتحسس مدى اهمية حقوق المجتمع، فلا يكرر اي فعل خطا ينتهي به الى الاعتداء على حقوق الاخرين، والذي اودى به هذه المرة الى السجن.

يجب اخراج (السجون) ونزلاءها وقضاياهم من دائرة السياسة، لتبقى محصورة في دائرة القضاء حصرا، لياخذ كل ذي حق حقه، وعلى قدر ذنبه والخطا الذي ارتكبه، ومن اجل ان يضمن الشعب، كذلك، حقوقه ممن اعتدى عليها باي شكل من الاشكال.

ان جوهر دولة القانون يتمثل بان يكون القانون فوق الجميع، اما ان يؤخذ الضعيف بالقانون ويهرب القوي، المحمي بالحزب الحاكم او بقوانين السياسة كالمحاصصة والتوافق، من القانون، فهذا ليس من القانون بشئ ابدا.

او ان (يخيس) السجين الفقير في طوامير المعتقلات لانه لا يمتلك ما يدفعه ككفالة لحين موعد المحكمة، فيما تسارع (الحكومة) الى دفع الكفالة المترتبة على السجين (المدعوم) فان ذلك ليس من القانون والانصاف والعدالة في شئ.

ان الهدف الاسمى لاي قانون هو اقامة العدل واشاعته في المجتمع، فاي عدل سيحققه القانون اذا كان يميز بين مواطن عادي سرق فلسا ربما بسبب حاجته الماسة للقمة العيش، وبين وزير سرق قنطارا، لا لحاجة او لشئ، الا لانه ائتمن فخان الامانة؟.

نحن لا نريد ان تتكرر تجارب الطاغية الذليل صدام حسين مع السجون ونزلائها، او تجارب الانظمة الشمولية معها، فلا نريد ان تكتض السجون بالمعتقلين، فيفوق عددهم عدد طلاب المدارس مثلا او طلبة الجامعات او معاهد التعليم ومراكز البحوث والتحقيقات، كما اننا لا نريد ان تحتضن جدران السجون الاربعة اي معتقل سياسي، او سجناء عقيدة، بالاضافة الى اننا لا نريد ان تتحول السجون الى مراكز للفساد والافساد والجريمة على يد المسؤول عنها كما كانت ايام النظام البائد، او كما هو حالها اليوم في بلاد الانظمة الشمولية كمصر والسعودية والاردن وغيرها من بلدان العالم المقهور، الذي تتعرض فيه حقوق الانسان (الحر) و(السجين) على حد سواء، الى الانتهاك والسحق المنظم على يد جلاوزة السلطة الغاشمة.

كما اننا لا نريد ان نرى السجون ممتلئة باللصوص الصغار التافهين، اما كبار اللصوص وزعماء مافيات سرقات المال العام، فاحرار يتجولون في الشوارع، او ربما يتسنمون اخطر مواقع المسؤولية في الدولة، رغما عن انف القانون والقضاء والعدالة والناس المقهورين، او انهم يعيشون في عواصم العالم (الحر) او عند الجيران، بعد ان سرقوا من المال العام ما ان مفاتحه لتنوء بالعصبة اولي القوة.

كما لا نريد ان يغيب، بضم الياء الاولى وتشديد الياء الثانية وفتحها، احد في السجون، فلا نعرف عنه شيئا، وانما يجب ان يتم التعامل مع قضاياهم بكل شفافية ووضوح، في اطار القانون والعدالة، ولذلك يجب ان لا يتدخل احد في ملفاتهم، باستثناء القضاء، فلا رئيس الوزراء له الحق في اعتقال او اطلاق سراح سجين، من اجل عيون هذا او لترضية ذاك، ولا القوات متعددة الجنسيات لها الحق في اعتقال او اطلاق سراح سجين، بصورة عشوائية ومن دون مذكرات قانونية، لان كل ذلك، واي تدخل (سياسي) خارج اطار القانون، سيهدم العدالة ويفجر القانون من داخله، ما يهدد البلاد بفوضى دستورية وقانونية لا تحمد عقباها.

لا يجوز ان تتحول قضايا السجناء الى لوحات اعلانية او جزء من حملات انتخابية او قصص للتنافس الحزبي بين الفرقاء، فان ذلك تلاعب بكرامة الناس وامنهم، لا يجوز ان يتورط به من يدعي انه يعمل من اجل بناء دولة القانون والتاسيس لها.

وانا، بهذه المناسبة، اود ان اوجه حديثي الى وسائل الاعلام العراقية الرسمية، وكذلك الى المكاتب الاعلامية في الوزارات الامنية المعنية، واقصد بهم الناطقين الرسميين باسم هذه الوزارات، لادعوهم الى التدقيق في ما يقولونه او يبثونه من اعلام بخصوص المعتقلين في كل مرة، فهم يتحدثون عن مجرمين خطرين متورطين بالجرم المشهود لحظة اعتقالهم، وبعد ايام نسمع عن مكرمة (السيد رئيس الوزراء) القاضية باطلاق سراحهم لعدم ثبوت ادلة التهم الموجهة لهم.

ان هذا النوع من الاعلام يسئ الى سمعة الوزارات الامنية، كما انه يسئ الى سمعة الناس، فـ (المعتقلون) اما ان يكونوا مجرمين عند الاعتقال، فلماذا يتم اطلاق سراحهم بعد حين؟ واما ان يكونوا بريئين، فلماذا يتم اعتقالهم بلا مبرر؟ واما ان يكونوا من المشتبه بهم، فلماذا ينعتون بكل الصفات السيئة عند اعتقالهم، وهم مجرد مشتبه بهم؟.

هذا، فضلا عن ان عدد المعتقلين الذي تم الاعلان عنه لحد الان، فاق عدد سكان العراق ثلاثة اضعاف ربما او اكثر، اما عدد المعتقلين الذين تم اطلاق سراحهم، وحسب احصائيات الوزارات المعنية، فلا يقل عن هذا العدد.

اتمنى عليهم جميعا ان يعيدوا النظر في طريقة اعلامهم، من اجل تحسين الاداء، وعدم التورط بالسياسات المشابهة لاعلام النظام البائد، فان ذلك سيفقدهم مصداقيتهم، ويحث الناس على عدم متابعة اخبارهم وآراءهم (الامنية) وكل هذا ليس في مصلحة العراق الجديد الذي نتمنى ان يعتمد الاعلام الصادق، الذي يتعامل مع المعلومة الصحيحة بكل امانة وشفافية، وبحجمها الطبيعي، من دون تضخيم وتهويل او تحقير واستخفاف. 

* مدير مركز الاعلام العراقي في واشنطن

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 20/حزيران/2009 - 22/جمادى الآخرة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م