المثقف بين الانطواء والتأثير في المجتمع 

علي حسين عبيد

شبكة النبأ: يُقال إن المثقفين مختلفون كاختلاف الثقافات عن بعضها، غير إن المثقف التفاعلي يبقى في كل الاحوال هو العنصر أو الأداة التي تنبني عليها أسس ثقافة المجتمع، بمعنى أن الثقافة تأخذ سماتها وخصائصها من طبيعة دور المثقف سواء في حالة الإيجاب أم السلب، نعم هناك مقومات أخرى تتدخل بطريقة أو أخرى في تحديد سمات الثقافة كالعرف والدين والإرث الاجتماعي وما شابه، بيد إن الامر الذي يتفق عليه الجميع هو أهمية دور النخبة الواعية المثقفة في خلق وترسيخ وتنمية حزمة من النواميس والنظم الفكرية والسلوكية تنشأ وتتراكم في ضوئها ثقافة المحيط ثم تتطور وتتنامى لتأخذ سماتها الخاصة التي لا تشبه سمات غيرها من الثقافات إلاّ بحدود معينة تتعلق جلها بالجانب الانساني.

ومن هذه الاهمية القصوى لدور النخبة المثقفة في تأسيس وتطوير ثقافة قادرة على التفاعل مع مقومات العصر وتطوراته، تنبثق تساؤلات عدة حول المثقف العربي أو العراقي ومدى نجاحه بأداء دوره ازاء المجتمع في مسألة بناء نمط ثقافي راسخ متطور وقابل للتجدد ويمتلك في الوقت نفسه القدرة على التفاعل مع خصائص العصر كونه منبثق من قاعدة تفاعلية مثقفة أو يُفترض أن يكون كذلك، وهنا يبرز تساؤل شاخص ربما يردده كثير من المهتمين والمتابعين لشأن الثقافة كسلوك وليس كمفردة أو كنمط منعزل يتحدد بفئة دون غيرها، فالشاعر على سبيل المثال ليس هو المثقف حصرا ولا الأديب على وجه العموم، إنما المثقف هو ذلك العقل الذي يسهم بصناعة ثقافة السلوك وسلوك الثقافة ويقفز بها من أعالي المثاليات إلى أرض الواقع.

ولكن هل هناك ما يدل على وجود مثل هذا المثقف التفاعلي القادر على النزول إلى الطبقات الدنيا من التفكير والسلوك والتأثير في نمط حياتها والسمو بها إلى مصاف الثقافة المتطورة التي ينشدها جوهرا وتطبيقا؟ وهل هناك من المثقفين العراقيين من هو قادر على مغادرة برجه العالي حيث يمارس عزلته مبتعدا عن الحراك الاجتماعي الأدنى إلى عوالم الخيال وما شابه؟.

إن السمة الأكثر حضورا في المثقف التفاعلي هي قدرته على التأثير في الآخرين من خلال التفاعل اللحظوي معهم، والتخلي عن أبراج العزلة والنزول إلى الشارع الجامع لكل الفئات وممارسة الفعل التثقيفي على الارض وعدم الاكتفاء بالتنظير واطلاق الكلمات أو المؤلفات المثالية التي يمكن أن تُقال ولكن لا يُعمل بها، ولعل ذلك لا يتحقق بسبب غياب السمة التفاعلية في شخصية المثقف، إذ كثيرا ما يعاني مثقفونا من عزلة الذات، ومجافاة المحيط، والضعف في التفاعل مع الآخر الأقل حساسية وخيالا، وكثيرا ما يتسم المثقف العراقي بالنظر إلى الاحداث من أعلى قمة يمكنة الاختلاء فيها، وإذا أضفنا لذلك التدخل السياسي السمج في طبيعة حياة المثقفين والمحاولات السقيمة لتهميشهم، فإن خطر الانعزال سوف يتضاعف، لأننا قلما نلمس رد الفعل الواضح للمثقف وضعف تأثيره في تطوير انماط السلوك والقول وانماط التفكير ايضا، ولعلنا لا نأتي بجديد حين نستذكر أدوار المثقفين الكبار في صناعة ثقافاتهم المجتمعية التي قفزت بأممهم وشعوبهم إلى أنماط متفردة وسامية من الفكر والسلوك معا، والتأريخ الأعمق أو المنظور منه يضج بمثل هؤلاء المثقفين التفاعليين الذين تمكنوا من التأثير في مجتمعاتهم بحيث حققوا نقلات وانعطافات ثقافية شاخصة في سجل التأريخ.

ولعل العيوب التي يعاني منها مثقفونا هي التي تقف حائلا بينهم وبين طبيعة الدور المناط بهم، ومنها وربما أهمها ضآلة التأثير في الآخر بل ولا نغالي اذا قلنا غيابه تماما، فعلى مستوى العراق بل العرب من يستطيع إن يقدم نموذجا للمثقف التفاعلي الذي ترك بصماته في مجتمعه كما فعل جان جاك روسو مثلا، أو كما قدم سيجموند شكسبير سلسلة خالدة من الأفكار الانسانية التي تركت تأثيرها العميق في الانكليز وغيرهم، ومع أننا لسنا هنا في مجال المقارنة بين مثقفينا وغيرهم، إلاّ اننا لا نستطيع أن نتغافل عن الخلل الثقافي الذي يقف وراءه المثقف نفسه.

من هنا وقبل أن نوجه اللوم إلى عامة المجتمع، يُستحسن أن نؤشر مكامن الخلل التي تنطوي عليها طبيعة المثقف العراقي والعربي بشكل عام، وليس من العيب إن نفعل ذلك ونصحح الاخطاء ونشترك في صناعة ثقافة مجتمعية متطورة، بل العيب حين نتسلق باتجاه الابراج العاجية التي تعزلنا عن الآخر ونترك ساحة الفعل والحراك مفتوحة لمن هم اقل موهبة وقدرة سواء في صنع الثقافة المناسبة أو التدخل في رسم سياسات مدنية معاصرة تسهم بدورها بترسيم وتطوير ثقافة معاصرة ومتوازنة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 18/حزيران/2009 - 20/جمادى الآخرة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م