مقتطفات من حياة الادريسي

عباس يوسف آل ماجد

الشريف الإدريسي اكبر جغرافي عرفته الحضارة الإسلامية،بل واكبر جغرافي على الإطلاق حتى عصر الكشوف الجغرافية الأوربية أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر الميلاديين، هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس الحمودي الحسني وينتسب للأسرة الإدريسية العلوية والتي يمتد نسبها للإمام علي –عليه السلام ولذلك يلقب عادة بالشريف الإدريسي.

 كذلك يلقب الإدريسي بالصقلي لكونه امضي سنوات طويلة من حياته في صقلية ويلقب أيضا سطرابون العرب تشبيها بالجغرافي الإغريقي الكبير سطرابون ولد الإدريسي  في سبته بالمغرب عام 493هـ (1100م). وعاش أكثر سنوات حياته بالمغرب والأندلس وصقلية، يعتبر الإدريسي من أكبر الجغرافيين والرحالة العرب، كما له مؤلفات في التاريخ والأدب وعلم النبات والفلك والشعر، قضى معظم حياته متجولاً ما بين بلدان آسيا وأوروبا وإفريقيا، إلى أن استقرّ أخيرا في بلاط ملك صقلية روجر الثاني النورماني الذي قرَّبه من بلاطه كثيراً وطلب منه أن يؤلّف كتاباً في جغرافيا العالم، وبعد خمسة عشر عاماً من العمل الدؤوب أبصر الكتاب النور وسمَّاه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، فخرج هذا الكتاب كموسوعة جغرافية قيّمة بقيت المصدر الأول لعلماء أوروبا والشرق لأكثر من ثلاثة قرون، ولأهمية هذه الموسوعة كانت من أوائل الكتب العربية التي عرفت الطباعة، وبقيت تطبع وتنشر كاملة بالعربية واللاتينية والفرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية والإنكليزية حتى عام 1957، وذكر سيبولد أنه أجرى طباعة أجزاء منها، فيقول: نشرتُ أقساماً من هذه الموسوعة مع 71 خريطة، وطبع دوزي القسم المختص بالمغرب والسودان ومصر والأندلس عام 1864 في ليدن وطبع روزون ملر وصف الشام وفلسطين في ليبسك عام 1928، وطبع أماري وغيره القسم المتعلِّق بإيطاليا عام 1885 في روما، وطبع كوندي الأصل العربي مع الترجمة الإسبانية للأقسام التي تخص جغرافية الأندلس سنة 1799 في مدريد، ويصف سيبولد الموسوعة قائلاً: إنها مبنية على الأصول العلمية والحقائق الفنية الثابتة لذلك العهد والتي لا تختلف كثيراً عمَّا هو ثابت في عهدنا هذا…

تميَّز الإدريسي بدقة حسابه لأطوال وعروض البلاد المختلفة، فلم يكتفِ بما اتفق عليه العلماء بل لجأ إلى أساليب جديدة ليتحقق من صحة المعلومات ودقتها، لهذا استعمل ما أسماه "لوح الترسيم"، ويصف سيبولد هذا اللوح بقوله: هو لا شك تصميم جغرافي للكرة الأرضية، وبعبارة أدق هو مشروع خريطة العالم التي وضعها الإدريسي فيما بعد، لقد وضع عليها مواقع البلدان المختلفة بواسطة بركار خاص بناء على المعلومات التي جمعها، ومحققاً بعناية فائقة المواقع المذكورة واقفاً على حقيقة بعض المعلومات المتضاربة، وهذا هو الإنجاز العظيم الذي أدخله الإدريسي على خريطة العالم، فجعلها تقرب من وضعها العلمي الصحيح التي هي عليه الآن. قسم الإدريسي النصف الشمالي للكرة الأرضية إلي سبع مناطق مناخية متباينة. ثم قسم كلا منها بدوره إلي عشر قطاعات متساوية في عدد خطوط الطول بها. ورسم لكل قطاع من هذه القطاعات السبعين خريطة مستقلة بحيث كونت الخرائط السبعون في مجموعها خريطة شاملة للعالم عرفت بخريطة الإدريسي وهي أدق ما وصل إليه علم الجغرافيا وفن رسم الخرائط حتى ذلك العصر.

وتميزت هذه الخرائط بأنها كانت مبنية علي معرفة راسخة بكروية الأرض كما أنها تميزت بأنها توضح الملامح الجغرافية لأوربا بدقة غير مسبوقة في أي خريطة أخري كما أن هذه الخرائط كانت تظهر تفاصيل البحر المتوسط بدقة عالية غير مسبوقة. صنع الإدريسي لروجر الثاني كرة من الفضة رسم علي سطحها خريطة العالم لتصبح بذلك ممثلة للكرة الأرضية وكان قطر الكرة يبلغ المترين طولا ووزنها يقدر بوزن رجلين. وقد فقدت هذه الكرة في عصر الجهل والتعصب التي سادت بعد عصر النورمان الأولين.

كتب الادريسي العديد من المؤلفات ونذكر منها : روضة الأنس ونزهة النفس، الإدريسي الصغير، نزهة المشتاق في اختراق الأفاق الذي كان بمثابة التفسير والشرح لخريطة العالم الجديدة، تصف زيغريد هونكه بكتابها "شمس العرب تشرق على الغرب" هذا الكتاب فتقول: يحوي كتاب الإدريسي وصفاً كاملاً للمدن والبلاد موضحاً طبيعتها وثقافتها والنشاط البشري فيها، ذاكراً بحارها وجبالها وأنهارها وسهولها وأوديتها، كما يتحدث عن الفواكه والحبوب والنباتات التي تنمو في تلك البلدان، وكذلك الفنون والصناعات التي يتقنها أبناء كل إقليم، ويتكلم عن الصادرات والواردات والحالة المعيشية للشعوب والعادات والتقاليد والملابس واللغات المنتشرة بينهم، وتتابع العالمة الألمانية وصفها لأعمال الإدريسي فتقول: إذا كان بطليموس قد أخطأ في رسوماته ببضع درجات، فإن العرب لم يتجاوزوا الواقع الصحيح بدقيقة أو دقيقتين، ونجد أن الإدريسي قد وحّد الاتجاهين وربط بين الجغرافيا الوصفية والجغرافيا الرياضية الفلكية. وكذلك اهتمَّ المجمع العراقي بهذا الكتاب، فعمل باحثوه على مراجعة وتدقيق كل النسخ الموجودة في العالم، وأخرجوا خريطة الإدريسي وطبعوها سنة 1951 وهي بطول مترين وعرض متر.

 ورجح الكثير من الفلكيين والجغرافيين ان انجازات الادريسي لم تكن وليدة صدفة بل نتيجة لرحلاته المتكررة والطويلة في بقاع الأرض، حيث قام الإدريسي برحلات واسعة في بلاد حوض البحر المتوسط والبلاد القريبة منه وقد زودته تلك الرحلات بالكثير من المعلومات وأكسبت معارفه الجغرافية بعدا عمليا قلما توافر لغيره ممن توقفت رحلاتهم عند حد الانتقال بين صفحات الكتب.

 فقد زار مصر والشام وزار القسطنطينية ومكث بقرطبة زمنا كما تنقل بين أقاليم الأندلس والشمال الاسباني ومدنهما وزار البرتغال  الذي كان ما يزال جزء من الدولة الأموية وزار الشاطئ الفرنسي وجنوب إنجلترا وأخيرا زار صقلية عندما دعاه ملكها روجر الثاني وحل عليه ضيفا في بلاد العاصمة باليرمو ويعتقد أن الإدريسي مكث بصقلية قرابة عشرين عاما. توفي الادريسي عام 561هـ ( 1166 م) ويعتبر ليومنا هذا من اكبر علماء الجغرافية في العالم.

abbasmajedy@yahoo.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 17/حزيران/2009 - 19/جمادى الآخرة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م