ثقافتنا بين الإنتاج والاستهلاك

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: تحضرني الآن جملة قرأتها قبل عقدين من الزمن لأحد المفكرين تقول (إن الأمة بثقافتها) ولعل معناها لا يحتاج الى تعمّق او طول تفكير، كما أن صحة هذه الجملة ودرجة إنطباقها على الارض تكاد تحسم ما ذهبتْ إليه من معنى، فليس ثمة أمة متطورة وراقية من دون ثقافة متطورة وراقية، ولكن سيبرز تساؤلان في هذا الصدد، الأول هو (مَنْ يصنع مَنْ.. الثقافة أم الأمة؟) والتساؤل الثاني (ماهي مميزات الثقافة الناجحة؟).

وسأقفز الى الاجابة عن التساؤل الثاني فأقول، أن من بين أهم الميزات التي تجعل الثقافة في حالة رقي وتطور تراتبي، هي نبذها او خلوها من النزعة الاستهلاكية وتحولها الى ثقافة منتجة، بمعنى أن تتحول الثقافة الى (سلعة إقتصادية) لها قيمتها المتنامية التي تجعلها قابلة للتدوال الاقتصادي وتدفعها للمشاركة بل المنافسة الحادة مع جميع الكيانات الاقتصادية ذات الحراك المنتِج على المستوى المالي والربحي في آن واحد، فمثلما تكون كذا شركة إنتاجية في مجال التعليب او الاسمنت او اي مجال تصنيعي آخر قادرة على صنع السلعة وتسويقها وعرضها وبيعها والحصول على ريعها ثم توظيفه في توسيع رأس المال وتنميته وتطوير العملية الانتاجية برمتها في سلسلة من الحراك الاقتصادي المتتابع، فإن الثقافة الناجحة تنتمي الى هذا النمط الانتاجي الناجح وليس العكس حين تكون الثقافات استهلاكية وتصبح عالة على اقتصاديات بلدانها الضعيفة أصلا.

إذن فقد بدا الفرق هنا واضحا بين الثقافة المنتجة المتطورة والفاعلة وبين الثقافة المستهلكة النمطية والخاملة، ولكن ما الذي يجعل من ثقافتنا تنتمي الى إحدى الثقافتين المنتجة او المستهلكة؟ وقبل ذلك حين نسأل عن نوع ثقافتنا فماذا سنجيب؟ هل نستطيع ان نقول بأنها ثقافة منتجة؟ كلا إنها ثقافة مستهلكة حيث تشير الوقائع على الارض الى هذا الجواب من دون لبس او غلوّ او تجاوز على الحقائق..

 نعم ان ثقافتنا ثقافة استهلاكية وهي (عالة) على اقتصادنا وان النمط الاستهلاكي المتخلف ينخر جسدها من الرأس حتى أخمص القدمين!!!.

والدلائل كثيرة على هذا القول، إذ أننا جميعا (رسميون وأهليون/ مختصون او مراقبون) لم نتعود حتى الآن على أن نرتفع بثقافتنا الى درجة التصنيع والانتاج والتسويق الناجح، وإن فقدان الثقافة لهذه السلسلة الاقتصادية المتتابعة وخروجها بعيدا عن الحراك الاقتصادي الفاعل جعل منها ثقافة (إتكالية/ استهلاكية) لاتستطيع السير بقدمين قويتين راسختين في ساحة الثقافة العالمية الناهضة، بل هي تسير بساق واحدة متمثلة بالمفكر والعالم والمثقف الذي غالبا ما يعاني من العوز المادي فيلجأ الى سبل شتى منها بيع منتجه الفكري بثمن بخس يصب في تكريس الثقافة النمطية المستهلكة، ناهيك عن غياب الدور الجمعي والمؤسساتي والمنظماتي عن دعم الثقافة (كصناعة منتجة ومربحة) في آن واحد، وهنا تتشكل تساؤلات كبيرة وكثيرة منها:

لماذا يغيب رأس مال القطاع الخاص عن الساحة الثقافية؟. ولماذا لم يجازف بدخولها واستنهاضها من حالة الخدر والاتكال التي تعاني منها؟.

 ثم لماذا هذا الضعف المثير للاستغراب لدور القطاع العام في تحفيز الحراك الثقافي، بل لماذا يتم بوضح النهار تجيير المال العام لجعل الثقافة مستهلِكة نمطية وخادمة لاهداف القطاع العام او الرسمي او الحكومي بتوصيف أدق؟.

وهنا نصل الى الاجابة عن التساؤل الأول، مَنْ يصنع مَنْ، الثقافة أم الأمة؟.

غير أننا يمكن أن نجزم هنا فيما يخص التساؤل الأول، بأن البداية ستكون من فعل الانسان قطعا وقدراته اللامحدودة، فمثلما حقق قفزاته التطورية العملاقة عبر رحلته الحياتية المتنامية في المجالات كافة، فإنه هو من طوَّر نمطه الثقافي وحوله من خانة الاستهلاك المقيت الى حالة الانتاج المبدع وهذا ما حدث في الأمم المتقدمة، أما كيف ننتقل بثقافتنا من الحالة النمطية الإستهلاكية المتكلة الى الحالة الانتاجية الناجحة، فإن ذلك يتطلب جهودا جمعية شاملة وخطوات حقيقية كثيرة تقع في جانبي التخطيط والتطبيق منها:

- تشجيع وتفعيل دور رأس المال الخاص في تنشيط الحراك الثقافي والمعاونة في نقله الى صفة الإنتاج بدلا من الاستهلاك مع وضع هامش التضحية والخسائر في الحسبان لا سيما في مراحل التأسيس لعملية النقل المذكورة.

- مراقبة دور المال العام من قبل الجهات المختصة في تنشيط النمط الثقافي وعدم توظيفه للمصالح والاجندات الحكومية والسياسية الصرفة.

- ينبغي أن يتعلم المختصون على كيفية صناعة النجم الادبي والفني والعلمي وما شابه او صناعة الكتاب وما شابه ولنا في التجارب العالمية أدلة وسبل كثيرة للاستفادة منها.

- أن يتضاعف دور المختص من العلماء والادباء والمثقفين لتحفيز الجهات اعلاه على تبني الثقافة المنتجة والتخلي الكلي عن الثقافة الإتكالية.

- ينبغي على الافراد (الأثرياء والمتنفذين على وجه الخصوص) أن يعوا بأن الإسهام في صنع ثقافة منتجة ستصب في صالحهم مثلما تصب في صالح الجميع وهذا هو دافعهم للاسهام بتمويل المشاريع الثقافية ودعمها .

- الاهتمام بمقومات عناصر الثقافة المنتجة ومنها العلماء والمثقفين كافة والعمل على توفير عناصر الانتاج الثقافي وترسيخه.

وهنا نقول إن الثقافات الناجحة في المجتمعات المتطورة تمكنت أن تسوّق نفسها بقوة وأصبحت مشاريع اقتصادية مهمة لها دورها الهام في المنافسة الربحية مع المشاريع الأخرى، فتكونت في هذه المجتمعات قيمة كبرى للفكر والابداع سواء في الجانب المعنوي او الجانب المادي الربحي، وختاما يمكننا لو توافرت عناصر الاخلاص والتصميم والتخطيط والتنفيذ الناجحين أن ننتقل من ثقافتنا الاستهلاكية الراهنة الى ثقافة جديدة منتجة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 11/حزيران/2009 - 14/جمادى الآخرة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م