مفهوم الصحابي:
قبل الحديث عن سنة الصحابة وحجيتهم لدى جمهور السنة، من المناسب أن
نشير بشكل موجز إلى تعريف الصحابي لديهم. فحسب ابن كثير كما في الباعث
الحثيث ان الصحابي هو" من رأى النبي (ص) في حال إسلام الرائي وإن لم
تطل صحبته وإن لم يروعنه شيئا " وهذا قول جمهور العلماء خلفا وسلفا.
ويرى ابن حجر في الإصابة بأن مفهوم الصحابي يشمل حتى من رأى النبي
(ص) ولم يجالسه، بل يدخل فيه من لقيه مؤمنا ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام
ومات مسلما، كالأشعث بن قيس. وقال: هذا التعريف مبني على الأصح المختار
عند المحققين، كالبخاري وأحمد بن حنبل وغيرهما، كما جاء في الباعث
الحثيث في شرح اختصار علوم الحيث لابن كثير.
عدد الصحابة ورواياتهم:
وبالنسبة لعدد الصحابة، فيرى أبو زرعة ان النبي (ص) قبض عن مائة
ألف وأربعة عشر ألفا من الصحابة ممن روى عنه وسمع منه. وقد بلغت مجموع
تراجمهم في كتاب الإصابة لابن سعد حوالي( 12279) صحابيا مع المكرر.
وحسب ابن حزم ان مسند بقي بن مخلد روى فيه عن ألف وثلثمائة صاحب ونيف،
ورتب حديث كل صاحب على أبواب الفقه. وقد جمعت عدد الأحاديث التي نسبها
ابن الجوزي للصحابة في مسند بقي بن مخلد، فكانت (31064) حديثا. ويرى
العلامة أحمد شاكر بأن أحاديث مسند أحمد لا تقل عن خمسة وثلاثين ألفا
ولا تزيد على الأربعين ألف مع المكرر. وفيما يلي قائمة بعدد روايات عدد
من الصحابة المكثرين حسب ابن الجوزي في مسند بقي وحسب أحمد شاكر في
مسند أحمد:
|
مسند بقي |
مسند أحمد |
أبوهريرة |
5374 |
3848 |
عبد الله بن عمر |
2630 |
2019 |
أنس بن مالك |
2286 |
2178 |
عائشة بنت أبي بكر |
2210 |
غير مذكور |
عبد الله بن عباس |
1660 |
1696 |
جابر بن عبد الله |
1540 |
1206 |
أبوسعيد الخدري |
1170 |
958 |
عبدالله بن مسعود |
848 |
892 |
عبد الله عمروبن العاص |
700 |
722 |
والجدير بالذكر، يعتبر الخلفاء الأربعة الأوائل من المقلين للرواية.
يذكر العلامة السيوطي في تاريخ الخلفاء رواياتهم على النحو التالي:
أبوبكر:142
عمر: 539
عثمان: 146
الإمام علي: 586
وذكر بأن معاوية بن أبي سفيان روى حديثا 163 مما يعني انه روى أكثر
مما رواه كل من الخليفة أبو بكر والخليفة عثمان بن عفان.
ومع أخذنا في الإعتبار لهذه الأعداد الكبيرة من الروايات التي رواها
الصحابة والتي تقدر بحوالي خمس وثلاثين ألف رواية عن النبي (ص)، ومع
افتراض إن ما يقرب من ربعها أو ثلثها من المكرر، فإن المتبقي منها يشكل
عددا ضخما يتراوح بين 23- 25 ألف رواية. ومما لا شك فيه فإن هذا العدد
الكبير من الروايات ينتج عددا كبيرا من الأحكام والمفاهيم الفكرية،
الأمر الذي يلقي ضوء على مدى إسهام روايات الصحابة في تشكيل البنية
العقدية والفقهية والتفسيرية والمفاهيمية للفكر السني.
الصحابة عدول فوق النقد:
والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة. ولا يبحث عن حال
الصحابي وسيرته لأجل التحقق عن وثاقته ومصداقيته بالنسبة لقبول الرواية
أوردها، كما لا يبحث في مدى ضبطه ودقة أدائه وقوة حفظه، بخلاف ما كان
سائدا في العصر الأول. فالصحابي يعلو على قواعد النقد والجرح والتعديل،
ولهذا لم يتعرض أئمة الجرح والتعديل للصحابة في الأعم الأغلب ضمن مصادر
رجال الحديث، بل خصصت لتعدادهم وتراجمهم مصادر خاصة.
وقد تعرض ابن عبد البر لنقد أهل الحديث لأنه تطرق في كتاب
الإستيعاب إلى بعض الحوادث التاريخية التي دارت بين الصحابة، حيث اعتبر
ذلك إساءة في حقهم. نقل ابن كثير عن ابن صلاح في الباعث الحثيث " وقد
شان ابن عبد البر في كتابه " الإستيعاب " بذكر ما شجر بين الصحابة مما
تلقاه من كتب الأخباريين "
مراسيل الصحابة وموقوفاتهم حجة:
يذكر الدكتور صبحي الصالح في علوم الحديث، ان أكثر العلماء يحتجون
بمراسيل الصحابة فلا يرونها ضعيفة. بل تعد مراسيل الصحابي الذي ثبت
سماعه من أعلا مراتب المرسل، يليه الذي له رؤية فقط ولم يثبت سماعه.
وينقل عن السيوطي في التدريب إن في الصحيحين من مراسيل الصحابة ما لا
يحصى. وعد الحاكم النيسابوري في معرفة علوم الحديث موقوفات الصحابة على
انها أحاديث مسندة. وذكر لها نماذج عدة مثل قول الصحابي المعروف
بالصحبة: أمرنا أن نفعل كذا، أو نهينا عن كذا وكذا، وكنا نفعل كذا،
وكنا لا نرى بأسا بكذا، وكان يقال كذا وكذا، ومن السنة كذا، وأشباهه
وانتهى الحاكم بقوله " إذا قاله الصحابي المعروف بالصحبة فهو حديث مسند
وكل ذلك مخرج في المسانيد " ويرى ابن كثير في الباحث الحثيث إن قول
الصحابي " أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا، مرفوع مسند عند أصحاب الحديث.
ومما سبق يتجلى لنا التأثير الكبير للصحابة في تشكل الحديث ومن ثم
الفقه بل عموم الفكر الإسلامي السني.
سنة الصحابي أصل تشريعي:
تجدر الإشارة إلى ان سنة الصحابة هي أصل تشريعي لدى جمهور السنة،
كما تعبر كلمات جملة من الأصوليين والفقهاء الكبار. فقد خصص ابن قيم
الجوزية في المجلد الرابع من كتابه "اعلام الموقعين " فصلا طويلا حول
حجية فتاوي الصحابة، قال في مطلعه " إن لم يخالف الصحابي صحابيا آخر،
فإما أن يشتهر قوله في الصحابة أولا يشتهر، فإن اشتهر، فالذي عليه
جماهير الطوائف من الفقهاء أنه إجماع وحجة وقالت طائفة منهم هوحجة وليس
إجماع، وقالت شرذمة من المتكلمين وبعض الفقهاء المتأخرين لا تكون
إجماعا ولا حجة، وإن لم يشتهر قوله أولم يعلم هل اشتهر أم لا فاختلف
الناس: هل يكون حجة أم لا ؟ فالذي عليه جمهور الأمة أنه حجة..." وأقام
أدلة من ست وأربعين وجها على حجية فتاوي الصحابة.
تأصيلات ابن القيم والشاطبي:
وعلى أننا لسنا بصدد استعراض تفاصيل ما ذكروه في هذا الشأن، ولكن
نشير إلى بعض تأصيلاتهم حيالها ليطلع عليها القارئ.
1- استدل بقوله تعالى " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار
والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم " وانه يقتضي حصول الرضوان لكل
واحد منهم من السابقين ومن تبعهم. والآية تعم اتباعهم مجتمعين ومنفردين
في كل ممكن. وانتهى إلى انهم استحقوا منصب الإمامة والإقتداء بكونهم من
السابقين وهي صفة موجودة في كل واحد منهم.
2- طبق عليهم مجموعة من الآيات القرآنية التي تضمنت صفات الهداية
والعلم والمعروف والصدق والإستقامة والإصطفاء والصبر واليقين والجهاد
وغيرها، بالإضافة إلى عدد من الآيات التي اشتملت على توجيهات بالإتباع
والإقتداء لمن تمتع ببعض تلكم الصفات السامية، من قبيل قوله تعالى "
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " وقوله " والذين قاتلوا في سبيل
الله فلن يضل أعمالهم " وقوله " واتبع سبيل من أناب إليه " و" وسلام
على عباده الذين اصطفى " و" يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا
العلم درجات " و" كنتم خير أمة أخرجت للناس " و" كونوا مع الصادقين "
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس " و" ومن يعتصم بالله
فقد هدي إلى صراط مستقيم " وكذلك قوله عن أصحاب موسى " وجعلنا منهم
أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " وقال في هذا
المضمار: " من المعلوم أن أصحاب محمد (ص) أحق وأولى بهذا الوصف من
أصحاب موسى، فهم أكمل يقينا وأعظم صبرا من جميع الأمم، فهم أولى بمنصب
الإمامة "
3- إستدل بعدد من الروايات عن النبي (ص) مثل "خير القرون القرن الذي
بعثت فيهم " و" النجوم أمنة للسماء... وأنا أمنة لأصحابي وأصحابي أمنة
لأمتي " وذكر بأن هذا التشبيه فيه وجوب اهتداء الأمة بهم. و" مثل
أصحابي كمثل الملح في الطعام " " لوان أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ
مد أحدهم ولا نصيفه " وعلق عليها بقوله: فكيف يجوز أن يحرمهم الله
الصواب في الفتاوى ؟ واستدل برواية العرباض بن سارية والتي جاء فيها "
عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا
عليها بالنواجذ" فقرن سنة خلفائه بسنته وأمر باتباعها كما أمر باتباع
سنته، وبالغ في الأمر بها. وهذا يتناول ما أفتوا به وسنوه للأمة وإن لم
يتقدم من نبيهم فيه شيئ. وفي صحيح مسلم " إن يطع القوم أبا بكر وعمر
يرشدوا " و" لو اتفقتما – الشيخان – على شيء لم أخالفكما " و" هذان
السمع والبصر " أي انهما من الدين بهذه المنزلة.
ومن المحال أن يحرم سمع الدين وبصره الصواب. و" ان الله جعل الحق
على لسان عمر " و" لو لم أبعث فيكم لبعث عمر " وحسنه الترمذي، وروى
مسلم " قد كان فيمن خلا من الأمم أناس محدثون، فإن يكن في أمتي أحد
فعمر " ومن المحال أن يكون حظه من أحكام الدين الخطأ وحظ غيره من
المتأخرين الصواب.
4- واستشهد بقول الإمام علي (ع) " لن تخلوا الأرض من قائم لله بحجة
لكيلا تبطل حجج الله وبيناته " وقال فلو جاز أن يخطئ الصحابي في حكم
ولا يكون في ذلك العصر ناطق بالصواب في ذلك الحكم لم يكن في الأمة قائم
بالحق في ذلك الحكم.
وقال في الوجه الأخير " أنه لم يزل أهل العلم في كل عصر ومصر يحتجون
بما هذا سبيله من فتاوى الصحابة وأقوالهم ولا ينكره منكر منهم وتصانيف
العلماء شاهدة بذلك.
كما ان العلامة الشاطبي، الأصولي المقاصدي المعروف، خصص في الجزء
الرابع من كتابه الموافقات فصلا خاصا بعنوان " سنة الصحابة كسنة الرسول
يعمل بها ويرجع إليها " وساق على ذلك عددا من الأدلة، منها عدد من
الآيات القرآنية السالفة ومجموعة من الأحاديث السابقة وغيرها. واعتبر
الأوصاف الواردة في الآيات مختصة بهم لأنهم المخاطبون بها على الخصوص
ولا يدخل فيها غيرهم إلا بقياس ودليل آخر. وقال " فإن من بعد الصحابة
من أهل السنة من عدلوا الصحابة على الإطلاق والعموم، فأخذوا عنهم رواية
ودراية من غير استثناء ولا محاشاة " وصرح " بأن جمهور العلماء قدموا
الصحابة عند ترجيح الأقاويل، فقد جعل طائفة قول أبي بكر وعمر حجة
ودليلا، وبعضهم عد قول الخلفاء الأربعة دليلا، وبعضهم يعد قول الصحابة
على الإطلاق حجة ودليلا، ولكل قول من هذه الأقوال متعلق من السنة..."
واستشهد بأقوال جماعة من السلف منهم عمر بن عبد العزيز " سن رسول الله
(ص) وولاة الأمر بعده سننا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة
الله وقوة على دين الله، من عمل بها مهتد ومن استنصر بها منصور ومن
خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت
مصيرا ".
وقال شارحه العلامة عبدالله دراز " مفاد الدليل الأول والثاني أن
المراد السنة العملية، أي إذا عمل الصحابة عملا لم ينقل لنا فيه سنة عن
الرسول لا موافقة ولا مخالفة، فإنا نعد هذا كسنة النبي "ص" ونقتدي بهم
فيه.."
مذهب الصحابي في نظر المعاصرين:
كما ذكر الأستاذ عبد الوهاب خلاف في كتابه " علم أصول الفقه " ضمن
أدلة التشريع، مذهب الصحابي، ومما قرره في هذا الصدد " لا خلاف في أن
قول الصحابي فيما لا يدرك بالرأي والعقل يكون حجة على المسلمين، لأنه
لا بد أن يكون قاله عن سماع من الرسول (ص).. وهو من السنة وإن كان في
ظاهر الأمر من قول الصحابي " وأضاف " ولا خلاف أيضا في أن قول الصحابي
الذي لم يعرف له مخالف من الصحابة يكون حجة على المسلمين.." واختلفوا
فيما صدر من الصحابة عن رأي واجتهاد. فأبو حنيفة يأخذ برأي من شاء منهم
ولكنه لا يسوغ مخالفة آرائهم جميعا. ونسب خلاف إلى الشافعي بأنه يسوغ
مخالفة آرائهم جميعا في هذه الحالة.
ولكن الشيخ أبو زهرة إنتهى بعد البحث إلى غير ذلك، وسبقه إليه ابن
القيم، كما أسلفنا. وفند ما نسب إلى الشافعي من مخالفة قول الصحابي في
مذهبه الجديد، في كتابه " تاريخ المذاهب الإسلامية " مستندا في ذلك إلى
أقوال الشافعي في كتابي " الرسالة والأم " مؤكدا بأن الشافعي يقرر بأن
رأي الصحابي حجة يؤخذ بها إن كان قولا واحدا للصحابة، ويتخير من
أقوالهم إن كانت لهم أقوال ".
وذكر أبو زهرة في معرض حديثه عن فقه مالك، في كتابه الآنف " كان
مالك (رض)يأخذ بفتوى الصحابي على انها حديث واجب العمل به، ولذلك أثر
عنه أنه عمل بفتوى بعض الصحابة في مناسك الحج وترك عملا للنبي (ص)
باعتبار أن ذلك الصحابي ما يفعل ما فعل في مناسك الحج من غير أمر النبي
(ص) " وأضاف أبو زهرة " هذا من المواضع التي انتقد الشافعي شيخه مالكا
وقال عنه انه جعل الأصل فرعا والفرع أصلا " أما الإمام أحمد فإن ما
أفتى به الصحابي يعتبر عنده الأصل الثاني بعد النصوص، فإذا لم يعرف لها
مخالفا لم يتركها. وعند تعدد أوال الصحابة يرجح ما كان معتضدا
بنص.وينتهي أبوزهرة إلى اتفاق الفقهاء أصحاب المذاهب الأربعة على الأخذ
بفتوى الصحابة.
وأفرد الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه " أصول الفقه "، كعادة كثير من
الأصوليين، عنوانا خاصا حول " فتوى الصحابي " ومما قال فيه " الصحابة
شاهدوا النبي (ص) وتلقوا عنه الرسالة المحمدية وهم الذين سمعوا منه
بيان الشريعة ولذلك قرر جمهور الفقهاء ان أقوالهم حجة بعد النصوص. كما
أثبت بأن الأئمة الأربعة كانوا يتبعون قول الصحابي بخلاف بعض مقلديهم.
وذكر رأي الشوكاني المناقض لذلك، ثم رد عليه ووصف كلامه بالمغالاة في
رد أقوال الصحابة وقال " لكنهم – الأئمة - وجدوا ان هؤلاء الصحابة هم
الذين استحفظوا على كتاب الله سبحانه وتعالى ونقلوا أقوال محمد إلى من
بعدهم، فكانوا أعرف الناس بشرعه وأقربهم إلى هديه وأقوالهم قبسة نبوية
وليست بدعا ابتدعوها ولا اختراعا اخترعوه "
بل ان الشيخ القرضاوي نفسه، عد في المقدمة السادسة عشرة لكتابه "
فقه الزكاة " سنن الصحابة والخلفاء الراشدين مصدرا من مصادر التشريع،
ملحقا بسنة الرسول (ص). ومما قاله وهو يعدد هذه المصادر، بعد الكتاب
والسنة، و" تحت عنوان " سنن الخلفاء الراشدين المهديين " قال: وثالث
هذه المصادر السوابق التطبيقية للصحابة، وخاصة سنة الخلفاء الراشدين
المهديين الذين ألحق الرسول (ص) سنتهم بسنته وأمرنا بالتمسك بها والحرص
عليها، في حديثه الذي رواه العرباض بن سارية... " بل أضاف القرضاوي
إليهم، طبقا لبعض العلماء، عمر بن عبد العزيز، خامس الخلفاء الراشدين.
ولا بد من التنويه ان بعض الفقهاء خالف الجمهور في ذلك منهم ابن حزم
والغزالي والشوكاني. وقد مر تعبير ابن القيم عن المخالفين بأنهم شرذمة
من المتكلمين وبعض الفقهاء المتأخرين.
من جهة أخرى، إن الشيخ عبد الله بن حميد السالمي وهو من مجتهدي
المسلمين الإباضية، في الجزء الثاني من كتاب " شرح طلعة الشمس على
الألفية " وأثناء مناقشته رأي الظاهرية في استدلالهم على حجية سنة
الخلفاء الراشدين الأربعة، براواية " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين من بعدي " أكد على ان الظاهر منها ان سنة الخلفاء الأربعة
كسنته (ص) في وجوب الإتباع، وقال " في شرح الطلعة: لم يخص (ص) الخلفاء
الأربعة بل أراد كل خليفة حق ولا شك في أنه قد جاء من بعدهم خليفة حق،
كطالب الحق والجلندي ابن مسعود والوارث ابن كعب وغيرهم من أئمة
المسلمين، فلا وجه لتخصيص الأربعة ". وفي الجزء الأول من شرح مسند
الربيع، قال في معرض تحديد أوصاف الفرقة الناجية، " وهي التي ثبتت على
كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وسنة الخلفاء المهديين عملا
بوصية رسول الله (ص)، وأورد رواية العرباض بن سارية السالفة، ثم قال "
ولا يخفى ان السيرة التي كان عليها رسول الله (ص) وأبوبكر وعمر اختلفت
في آخر خلافة عثمان... " ثم ذكر خلاصة رأيه حول بعض الحوادث التي عصفت
بالأمة في تلك المرحلة المبكرة.
إستغراب ودهشة:
وبعد هذا الإستعراض لآراء جملة من الفقهاء والعلماء، اتضح ان جمهور
السنة على حجية فتوى الصحابي وانها قبس نبوي وان سنة الصحابة كسنة
النبي (ص) في وجوب الإتباع والإقتداء، وان من خالف في ذلك إتبع غير
سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.
وبعد هذا يحق لنا أن نسجل استغرابنا ودهشتنا ممن يسوغ لفريق من
المسلمين أن ينزل العشرات بل المئات بل الآلاف من الصحابة، هذه المنزلة
من الحجية ويضفي عليهم تلكم الأوصاف القدسية والعلمية، فهم الأئمة
الحجج الهادون المهديون الصادقون المصطفون المستحفظون على كتاب الله
وسنة نبيه. وان منهم من هو بمنزلة الملهم المحدث الذي تحدثه الملائكة
كعمر، ومنهم من أخبره النبي (ص) بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة كحذيفة
بن اليمان، كما في صحيح مسلم، وغيرها من الفضائل، ثم يستكثر على
المسلمين الإمامية قولهم بالنص والوصية لأئمة أهل البيت الإثني عشر
ويستعظم إعتقادهم بأعلميتهم وعصمتهم وحجيتهم واعتبارهم عدل الكتاب لكون
النبي (ص) قرنهم به، ولا يكتف بذلك بل يصرح بتبديعهم وتضليلهم !.
أهمية الإطلاع على منهج المسلم الآخر:
وهنا نود أن نتساءل من الشيخ القرضاوي، وطبقا لمنطقه السالف الذي
تحدث به عن عقيدة المسلمين الإمامية في حجية أهل البيت (ع)، هل يصح
القول بأن السنة عند حمهور السنة ليست هي سنة النبي (ص) فقط بل هي سنته
وسنة الخلفاء الأربعة بل سنة خامس الراشدين بل سنة عموم الصحابة ؟
أخال ان طرح فكر المسلم الآخر عبر نتائج الملازمات التي لا يلتزم
بها يجانب الموضوعية والدقة العلمية، ولا يتسق مع أدنى مبادئ الحوار
والتفاهم والتعارف فضلا عن التعاون والتقارب والإتحاد. بله يسهم في
تعميق الهوة بين أبناء الأمة خلافا لكل الشعارات المرفوعة في وسائل
الإعلام. ثم إذا كان هذا هو أسلوب قادة الإتحاد والحوار فكيف يتوقع أن
يكون أسلوب عامة الناس في مجال التعامل مع بعضهم ؟
لقد حان الوقت لأن ينفتح المسلمون، بالأخص العلماء والمفكرون من
دعاة الحوار، على مناهج بعضهم البعض، ويطلعوا على النتاج الفكري لمختلف
المدارس والمذاهب العقدية والفقهية، ويتعاطوا معها على أسس فكرية علمية
بعيدا عن تراكمات التاريخ وتقلبات السياسة وبمنأى عن أساليب الإلزام
والإفحام. وفي تقديري المتواضع، إن اطلاع المسلم على فكر المسلم الآخر
وعلى منهجه في التفكير ومسلكه في البحث وعلى أدلته وحججه ومقارباته
البحثية والفكرية، من شأنه أن يحد من ظاهرة إسقاط تفسيرات متكلفة
وتأويلات مجانبة للصواب على عقيدة المسلم الآخر وفقهه وممارساته، الأمر
الذي من شأنه أن يجنب الأمة كثيرا من المواقف الحادة والنظرات السلبية
تجاه المسلم الآخر، ومن الأفعال وردود الأفعال المتشنجة. |