تكريس ثقافة الإنفاق كإسلوب لتقدم المجتمع

قبسات من فكر الإمام الشيرازي

 

شبكة النبأ: من الدعامات المهمة التي ترتكز عليها المجتمعات الناجحة هي حالة تكريس الانفاق كمفهوم ثقافي قابل للتطبيق من خلال تدعيم العمل التطوعي ونشره كثقافة اجتماعية متطورة، ويتم ذلك من خلال تأسيس وتفعيل دور منظمات المجتمع المدني والمنظمات الاخرى الداعمة لترسيخ ثقافة الانفاق كي يبدأ المجتمع بالتوازن والشعور بالمساواة والعدالة ومن ثم الانتاج والتطور الى امام مع مرور الزمن.

من هنا تكمن اهمية التكافل الكبيرة وتتضح قوة دور الانفاق في تطوير المجتمع من النواحي السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية وغيرها، إن مسألة الانفاق تشبه حالة اقتناص الفرص التي قد لاتتوفر للانسان بصورة دائمة ولنا في سيرة النبي الاكرم (ص) وآله الطيبين الطاهرة نموذجا خالدا في هذا المجال حيث يقول المرجع الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه الله في كتابه(إنفقوا لكي تتقدموا):

(كان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ينفق كل ما استطاع إنفاقه، ويعد مالا يقدر عليه، حتى مات وهو مديون -وقد كانت الأموال تأتيه كالسيل- وكان علي -عليه السلام- ينفق كل ما يجد، وكان لا يدع لنفسه حتى مقدار الأكل اليومي، وهو يقول: -يا بيضاء! ويا صفراء! غري غيري-، ولما استشهد كان مديوناً بسبعمائة ألف أوصـــى بأن يوفيها الإمام الحسين -عليه السلام-، وكانت فاطمة الزهراء -عليها الصلاة والسلام- تنفق كل ما استطاعت إنفاقه، حتى إن عبائتها كانت مرقعة بالليف، وكان الإمام الحسين -عليه السلام- يلقب بـ: -كريم أهل البيت-، وكان مضيافاً معطاءاً، يبذل بغير حساب).

من هنا ينبغي على المسلمين ان يكرسوا ثقافة الإنفاق في طريقة عيشهم وتعاملهم مع الحياة، وأن يتخذوا من الانفاق في محله وسيلة لتدعيم الآخرين وترصين حياتهم وحمايتهم من الهفوات والزلل الذي يحدث تحت ضغوط الفقر، واذا كان الثري قادرا اليوم على الانفاق والمساعدة فإنه قد لا يقدر على ذلك في وقت آخر، ولذا عليه أن يغتنم الفرصة المتاحة له للانفاق طالما كان قادرا عليها، وهنا يقول الامام الشيرازي في كتابه المذكور:

(كان أحد أصدقائي التجار أحرضه على بناء مشروع في كربلاء، وكان يؤخر الأمر ويؤخر، فمرض وصار جليس الدار، واستولى أولاده على المال، فلم يقدر على شيء، وكان يتحسر أن فوت الأيام بالإهمال، حتى لم يكن يقدر على شيء.. لكن في المثل: (ندم فلان، ولم ينفعه الندم).

إن الانفاق من لدن الاثرياء هو نوع من العطاء الذي لاينضب كما يقول الامام الشيرازي، وان مسؤولية تكريس مفهوم الانفاق ونقله من خانة القول والتبجح الى خانة الفعل الملموس يقع على عاتق الأثرياء، ونلاحظ ذلك في المجتمعات المتقدمة حيث لا يبخل الغني في توظيف وصرف جزء من امواله في الافعال الخيرية لخلق حالة التوازن في بنية المجتمع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، حتى تحولت حالة التكافل الاجتماعي الى نمط راسخ من انماط هذه المجتمعات المتطورة، كما ان الاهتمام بالعلماء والمثقفين بصورة عامة لايغيب عن بال الاثرياء، فهو ركن مهم من اركان الانفاق في مجتمعاتهم، وقد اكد الامام الشيرازي رحمه الله على اهمية رعاية العلماء وتوفير احتياجاتهم لكي يتفرغوا لدورهم التربوي بصورة مناسبة حيث يقول الامام في كتابه (انفقوا لكي تتقدموا) حول هذا الموضوع:

(من الضروري للأثرياء الذين يحبون الخير: أن يهيئوا لأهل العلم دور السكنى الموقوفة، فكما يكون للطالب غرفة في المدرسة، كذلك تكون للمعيل منهم دور السكنى مادام طالباً، حتى يساعده ذلك على صعوبات الحياة، كما أن من الضروري على القائمين بأمور أهل العلم: أن يهتموا لأجل توجيه الأثرياء إلى ذلك، ويطلبوا من السلطات أن يجعلوا الماء، والكهرباء، والهاتف، وسائر الشؤون الحكومية؛ مجانا، والمواصلات على النصف، أو ما أشبه ــ كما يتعاملون مع أسرة التعليم الرسمي ــ وفي ذلك مساعدة كبرى للعلم والدين.. وإن أمكن -بدون محذور- أن تكون الحكومات قائمة بشؤون ورواتب أهل العلم، كما في البحرين والسعودية ــ في الجملة ــ كان ذلك من ألزم اللوازم.

إن المكانة الاجتماعية لجملة لا يستهان بها من أهل العلم قد تقلصت على أثر الاحتياج، فإن الكرامة الاقتصادية توجب الكرامة الاجتماعية، وتقلص المكانة الاجتماعية يقلل من نفوذ أهل العلم في الناس. وبذلك يقل نفوذ الدين، وهذه خسارة كبرى يجب أن تعالج.. كما أنه إذا أمكن وجب بناء دور لأهل العلم الموجودين في مختلف المناطق ــ كوكلاء، أو علماء محليين ــ ليكونوا في راحة من الإيجار).

من هنا تتوضح لنا اهمية الانفاق بصورة عامة وبصورة أخص على النخبة التي تعمل في زيادة الوعي بين افراد وشرائح المجتمع، ولعل الاهم هو ان تصبح حالة الانفاق الخيري سلوكا ثقافيا اجتماعيا راسخا في المجتمع لاسيما بين طبقة الأثرياء.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 10/حزيران/2009 - 13/جمادى الآخرة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م