
شبكة النبأ: عندما قفز الانسان من
اللغة الاشارية الى الصوتية بدأت تظهر مرحلة التطور الانساني المذهل
والمتسارع وبدأت تتحقق أحلام الانسان وخيالاته لتصبح حقيقة ملموسة لمس
اليد.
حيث أصبح الكلام لغة التفاهم والتواصل بين بني البشر برغم الارقام
الهائلة لانواع واعداد اللغات واللهجات التي وظفها الانسان للتفاهم
والتفكير والعمل والتخطيط وما شابه، غير ان الاشكالية التي لاتزال
حاضرة الى الآن هي نزعة الصراع الجمعي والفردي المتجذرة في العلاقات
البشرية.
فبرغم سمات التحضر التي اكتسبتها الامم والشعوب وبرغم النقلات
الحضارية الكبيرة التي حققها الانسان في رحلة الحياة إلاّ انه حتى هذه
اللحظة ما زال يعاني من سلطة التفوق الذاتي وتفضيل الذات ومحاولة إلغاء
الآخرين ومصالحهم وما شابه.
ولعل الخطاب الشمولي الذي ألقاه الرئيس الامريكي مؤخرا في جامعة
القاهرة، يبين بوضوح مدى محاولات الخيال للقفز على الوقائع القائمة على
الارض سواء ما يخص السياسة او العقائد او المصالح بأنواعها المتعددة
والكبيرة.
لقد انطوى هذه الخطاب الامريكي الذي يميل الى كفة (الخيال) أكثر من
ميله الى كفة الواقع، على توجهات إنسانية تحاول القفز على جميع الموانع
والحواجز (بل العقبات الكأداء) لتصنع عالما (سرمديا) يخلو او يكاد من
الصراعات الساخنة والباردة على حد سواء، لاغيا او متجاوزا بذلك نزعات
نفسية وفكرية متجذرة في نفوس وعقول مئات الملايين من البشر تمَّ
توريثها للأجيال اللاحقة عبر مئات بل آلاف السنين والافكار والعقائد
والنواميس، وقد حاول الخطاب (جاهدا) أن يمسك العصا من الوسط وأن يرضي
الجميع بلغة كلامية صنّعها خيال فردي موغل بالتفاؤل ومسلح بإمكانية
القفز على الوقائع بقوة الخيال.
نعم نحن نعرف ونقدّر قيمة الخيال وما قدمه للإنسان من قفزات حضارية
متلاحقة، فكلنا نقرّ بأن ما تحقق حتى الآن في المجال العلمي مثلا هو من
تمهيد الخيال وفعله، بمعنى أن الحقيقة التي نعيشها الآن كالوصول الى
القمر وسبر اغوار الفضاء كانت قبل عقود من الآن محض خيال لا اكثر وهكذا
بالنسبة للاختراعات والاكتشافات التي لا ولن تتوقف إلاّ مع النقطة
الأخيرة لمسيرة الانسان، غير أن جهود الخيال مع الساسة والعقائد قد
تبدو غير ذات جدوى، بكلمة اخرى ان كل ما جاء على لسان الرئيس الامريكي
في هذا الخطاب ينطوي على قيمة انسانية وفكرية كبيرة غير انه غير قابل
للتطبيق، او ان محاولة تطبيقه (مجرد المحاولة) تبدو ضربا من الخيال (السلبي)
إذ ليس كل خيال يكون ذا فائدة لمنتجه، فثمة الكثير من الأخيلة ذهبت
بالاتجاه المعاكس فتحولت من الهدف الايجابي الى ما هو مؤذٍ ومؤلم في آن.
إن محاولة (التوسيط) بين مايريده الاسرائيليون وما يبغيه
الفلسطينيون من لدن أوباما بدت ضعيفة وفاشلة منذ أن تفوه بها بل لقد
مقتها بعض السياسيين الاسرائليين وحتى الامريكيين الذين يرون فيها
تجاوزا على الحق اليهودي (المغتصب) وكأن الفلسطينيين هم الذين تجمعوا
من الشتات واستقروا عنوة في ارض ليست ارضهم!!! ولذلك يبدو الجمع بين
مثل هذه النقائض العقائدية والسياسية كالمستحيل تماما، إلاّ اذا كان
الامر لا يتعدى حدود المحاولة التي لا تخرج عن إطار القول فحسب.
ولعل هذا الامر له ارتباط بدرجة ما مع قضية العلاقة بين الغرب
والاسلام، وهو امر لايكاد يخفى على احد، فالخلاف بين الطرفين وإن كان
ذا طابع عقائدي متجذر إلاّ أن تجاوز الغرب على المسلمين بما في ذلك
(حقوق الفلسطينيين) هو الذي يمثّل لب الاشكالية القائمة بين الطرفين
(الغرب والاسلام) ولعل تجاوز هذه الاشكالية كما (تخيّل) او رغب اوباما
لايتحقق بخطاب كلامي لا يتجاوز ساعات، وأول تلك الاشارات المضادة له هي
ما اعلنته قيادات اسرائيلية وامريكية حيال ذلك، ناهيك عن التطرق لمسألة
الملف النووي ومخافة انتشاره في المعمورة (مع انه ملأ ما يقارب نصفها)
والنهج الذي يحاول ان يتغافل خطورة الترسانة النووية الاسرائيلية
المبررة بالخوف من (المسلمين) في محوها او طردها او ماشابه.
لقد احب كثير من المسلمين والعرب خطاب اوباما لا سيما الرسميين
منهم، غير ان الكثيرين أيضا رأوا في هذا الخطاب محض خيال كونه يقفز
بمسافات عالية فوق ارض الواقع، ولكي نكون أكثر واقعية من غيرنا، فنحن
حتى لو رحبنا بفحوى هذا الخطاب ومضامينه (الكبيرة) إلاّ اننا نبقى نرى
فيه ميولا خيالية لا تنسجم مع الافعال السياسية المتحركة على ارض
الواقع، وسنبقى ننظر بعينين مختلفتين الى اوباما، الأولى هي طروحاته
الخيالية ذات الطابع الانساني الايجابي، والعين الثانية مدى قدرته على
تحقيق هذا الخيال المحض على الارض والقفز من سمو الخيال الى مرارة
الواقع السياسي العالمي. |