صناعة المثقف

د. مازن مرسول محمد

في مجتمعاتٍ مثل مجتمعاتنا تكاد تكون صورة المشهد الثقافي ضبابية نوعاً ما، بسبب تقطع أوصال المنظومة الثقافية العربية بنسبٍ كبيرة، فلا الأجزاء مترابطة بشكلٍ جدي مع الكل وأن كانت على تواصلٍ ببعضها فأن ذلك هو لسان حال المحيط أما خارجه نلمس صور التباعد والتجزئة.

فكيف هو حال مجتمعنا العربي ألذي يرمي إلى صورة ثقافية متكاملة على الأقل ترفد هذا المجتمع بكل ما يؤهلهُ لان يكون ضمن قمم المجتمعات وهو يعاني من انفراط عقد الترابط بين مؤهلات الثقافة والمثقفين.

لعل ذلك يمثل شرخاً كبيراً قد لا يلحظهُ المجتمع الفاقد لأبسط دقائق الوعي بأهمية أساسات الثقافة.

فهل مجتمعنا العربي أرضاً خصبة لولادة المثقفين، أم أنه يحتاج إلى ترسيخ ما يسمى بصناعة المثقف؟

أي هل هو بحاجة إلى أن يمعن النظر جيداً بضرورة إعداد مثقفين قادرين على تأسيس منظومة ثقافية تشكل دعامة واقية للمجتمع العربي، أم أن الأمر لا يحتاج إلى كل هذا التعقيد وترك الأمر كما هو كفيل بخلق مثقفين قادرين على إنهاض المجتمع وإنقاذه من سلبياتهِ الكثيرة.

في الألفية الثالثة شهدنا مجتمعنا العربي وهو يئن من ويلاتٍ كثيرة في مفاصل حياتهِ المختلفة اجتماعياً وثقافياً وسياسياً وغيرها، الأمر الذي يؤشر حالة من التفاوت الكبير بين ما موجود من قاعدة ثقافية راسخة وبين نتاج هذهِ القاعدة.

من الممكن القول أن المجتمع العربي زاخر بالطاقات الثقافية القادرة على البذل والعطاء، لكن هل أن ذلك كافٍ وهل معادلة وجود ثقل المثقف دون عقلانية تعامل معه بصورةٍ إيجابية حالة صحية لمجتمعٍ ينشد التطور دون الانحسار.

من المعروف أن التجديد والتحفيز مطلوب لكل دقيقة من دقائق الحياة الضرورية، فقد تتواجد القاعدة الثقافية في كثير من المجتمعات لكن تواجدها يعترضهُ قصورٍ متمثل بعدم تهيئة هذهِ القاعدة بصورةٍ صحيحة تتركها تأخذ طريقها بعفوية.

أن نهضة المجتمعات تحتاج إلى ترابط العقل والمنطق لينتج تخطيطٍ مبرمج قادر على تحويل الشيء البسيط إلى معقدٍ ودقيق.

فلماذا لا تسعى مجتمعاتنا إلى صقل مثقفيها وإنزالهم من أبراجهم العاجية التي يتمركزون بها دون فائدة طموحة، والإيحاء لهم بأنهم في منتصف الطريق وأنهم لم يصلوا بالمجتمع العربي إلى ضفة الأمان، لان وجود قاعدة ثقافية قوية كمدخلات معناه وجود مخرجات متمثلة بمجتمعٍ يحمل منظومة ثقافية فكرية قوية، وما نلمسهُ هو أنصاف الحلول.

لعل مجتمعنا العربي يرزح في بعض الأحيان إلى قوالب العادات والتقاليد البالية وليست الأصيلة التي عُرف بها، فيشوبه الوهن في طريقة توظيف المثقف لخدمة المجتمع، لان أساس المجتمعات وعمادها هم المثقفين، فلماذا نجهل أو نتجاهل كل ذلك.

أن ما مطلوب منا حتى نحيا كمجتمعات لها أرثها الثقافي الكبير هو أن نحافظ بقوةٍ على هذا الإرث دون تصديعهِ وحشرهِ في خانة التراث البالي القديم.

وذلك بالقيام بتفعيل آلية تحريك الثقافة والمثقفين، فلا يجب أن نقف مكتوفي الأيدي تجاه أوضاع الثقافة العربية، إذ يجب علينا أن نساهم بصناعة المثقف من خلال معرفة كيفية إيصاله للمنطق والعقلانية في التصرف بالثقافة، لإعطاء المجتمع صورة ناصعة البياض دالة على صلابة قاعدتهِ وأساساتهِ الثقافية.

يجب أن لا نترك الأمر للصدفة فثقافتنا العربية تحتاج إلى فلترةٍ واضحة من كل شوائب العادات البالية القديمة والركود والتقوقع والانزواء، ونحتاج إلى تفاعل حيوي لتلاقح ثقافات الأجزاء مع بعضها لصناعة مثقفٍ قادر على أظهار الكل بقوةٍ كبيرة.

لذا فنحن اليوم نسعى إلى التحرك لصناعة المثقف، دون الأخذ بالقوالب الجاهزة لما يسمى بالمثقفين، فوجود هذهِ القوالب يحتاج إلى الصقل والتحفيز والدعم لتقمص وظيفة حمل الثقافة لنهضة المجتمع وتقدمهِ.

لكن هل أن الأمر من السهولة للولوج في هذهِ الخطوة، لعل الأمر يحتاج إلى جهودٍ كبيرة لتخطي عقبات هذا المشروع وجني ثمارهِ، أي كيفية فرز المثقف عن غيرهِ لقيادة المجتمع.

قد تتضارب المفاهيم حول المثقف فهناك من يعتقد أنهُ الذي يقرأ ويكتب وهناك من يظن أنهُ جامع العلم والمعرفة وآخرون يجمعون على أنه المستقيم الذي يسعى للصلاح في المجتمع.

ربما يكون المثقف يتطلب الفحص جيداً للإعداد لهذهِ المرحلة، فما يبتغيه مجتمعنا هو الإنسان القادر على فك رموز مشكلاتهِ بعلم ودراية تامة وتوظيفهما لخدمة ذلك المجتمع، ولا يحتاج لشخصٍ مملوءٍ بالعلم دون نفعٍ يذكر منه، لذا فالأمر رهنٌ بيد من يُعد لصناعة قالب ثقافي يضم في بواطنهِ إنسان حامل علم ومعرفة يتسلح بهما لإدراك الغوامض في حياة الناس وحلها بشكلٍ أمثل والوصول بهم إلى واحدة من قمم التطور والتقدم.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 6/حزيران/2009 - 9/جمادى الآخرة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م