مكانة أميركا الإستراتيجية بعد الأزمة الاقتصادية

قراءة في التقرير الاستراتيجي لعام 2009

الصادر عن معهد الدراسات الوطنية الإستراتيجية التابع لوزارة الدفاع الأميركية

تحليل: علاء بيومي

يقدم مركز الدراسات الوطنية الإستراتيجية التابع لوزارة الدفاع الأميركية في تقريره الاستراتيجي الدولي لعام 2009 الصادر بعنوان "دور أميركا الأمني في عالم متغير" قراءة هامة في تبعات الأزمة الاقتصادية الدولية الراهنة على مكانة أميركا الإستراتيجية عبر العالم.

تراجع اقتصادي واستراتيجي واضح.

حيث يرى التقرير – في فصله الأول - أن الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة والتي وقعت في جزء كبير منها بسبب إتباع أميركا لسياسات مالية غير مسئولة تركت بالفعل أثارا سلبية على مكانة أميركا الإستراتيجية الدولية يصعب تقدير تبعاتها رغم توافر مؤشرات عديدة عليها.

صعوبة التقدير تعود إلى أن الأزمة الاقتصادية الأميركية قادت لأزمة اقتصادية دولية مستمرة حتى الآن من شأنها وقف نمو الاقتصاد العالمي لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، ولا أحد يعرف حاليا متى ستنتهي أزمة أميركا أو العالم الاقتصادية، في حين يوقن الجميع بأن الخروج من الأزمتين لن يكون سهلا.

أما السبب الثاني لصعوبة تقدير تبعات الأزمة الاقتصادية على مكانة أميركا الدولية فهو صعوبة تعريف مصادر القوة الاقتصادية ذاتها والتي تعتمد على مؤشرات عديدة مثل سعر العملة الوطنية وحجم احتياطي الدولة من العملات الأجنبية وحجم صادراتها ومستوى التضخم بل ومؤشرات أخرى عديدة مثل مستوى التعليم والتقدم التكنولوجي والسمعة الدولية.

لذا يرى التقرير أن الأزمة ساهمت في تراجع مكانة أميركا الدولية بصفة خاصة والدول الغربية بصفة عامة أمام الدول الأسيوية الصاعدة وعلى رأسها الصين والهند ودول جنوب شرق أسيا النامية اقتصاديا، ولكن هذا التراجع الواضح قد لا يفسح المجال على المدى القصير أو بالضرورة أمام قوة اقتصادية أخرى كالصين على سبيل المثال لكي تحتل مكانة أميركا الاقتصادية الدولية، فاستمرار صعود تلك الدول على المدى الطويل يتوقف على عوامل عديدة، وهذا يعني أن الأزمة الاقتصادية ساهمت في تراجع مكانة أميركا الاقتصادية والدولية بشكل واضح ولكنه نسبي يصعب تقديره إذا حاولنا فهم تأثيره على المدى البعيد.

الأبعاد الإستراتيجية للقوة الاقتصادية

ويؤكد التقدير في بدايته على العلاقة بين الاقتصادي والإستراتيجي مؤكدا على أن القوة الاقتصادية هي أساس القوة الإستراتيجية، لأن القوة الإستراتيجية تستمد مواردها الأساسية من جيش قوي وميزانية دفاع ضخمة، وبالطبع يحتاج بناء جيش قوي لثروة هائلة تموله.

هذا يعني أن تراجع مكانية أميركا الاقتصادية سوف يؤدي تباعا إلى تراجع نفقاتها العسكرية مما يؤشر بأفول نفوذها الاستراتيجي.

هذا إضافة إلى أن القوة الاقتصادية ذاتها هي جزء هام من مكانة الدولة الإستراتيجية، فهي تعني سمعة دولية قوية لأميركا واعتماد دولي على عملتها وسوقها ومؤسساتها المالية وسياساتها الاقتصادية وأيدلوجيتها الاقتصادية السياسية وتدفق رؤوس الأموال الأجنبية على الاستثمار في أميركا ومن ثم دعم نموها الاقتصادي والحفاظ عليه.

أخطاء أميركا المالية وبداية الأزمة

ويترتب على ذلك أن أميركا خسرت جزءا هاما من مكانتها الدولية خلال الأزمة الاقتصادية الأخيرة، لأنها عبرت عن فشل أميركا في قيادة العالم اقتصاديا، خاصة وأن الأزمة الاقتصادية الدولية بدأت في أميركا ذاتها وبسبب سياسات مالية خاطئة أتبعاتها أميركا على مدى أكثر من عقد من الزمن وأهدرت كثيرا من أرصدتها وأرصدة العالم المالية.

ويقول التقرير أن الأزمة الاقتصادية ظهرت لسببين رئيسيين، أولهما غياب الرقابة المالية من قبل الحكومة الأميركية على مؤسساتها المالية كالبنوك ومؤسسات الإقراض والتأمين والتي أسرفت في منح قروض لا تغطيها أرصدة حقيقية سعيا منها للاستفادة من الفائدة التي تجنيها من الإقراض، حتى باتت تجارة القروض نفسها وما ينتج عنها من أرباح هائلة لا تغطيها أرصدة حقيقية محركا هاما للاقتصاد الأميركي والدولي.

ويقول التقرير أن حجم الأرصدة المالية العالمية الحالية بلغ 167 ترليون دولار أميركي في حين أن إجمالي الناتج القومي العالمي لا يتعدى 48 ترليون دولار أميركي فقط، وهذا يوضح الفارق الشاسع الذي يفصل بين حجم الأرصدة المالية الدولية وحجم الاقتصاد الدولي الحقيقي، ويعود هذا الخلل في جزء كبير منه إلى نمو عالم الإقراض والسندات المالية والتي لا تخضع لرقابة حقيقية خاصة في دول كأميركا والتي تمثل أكبر محرك للاقتصاد العالمي.

ويقول التقرير أن الشركات المالية الأميركية استثمرت جزءا هاما من أموالها في سوق العقارات الأميركية التي صعدت أسعارها إلى عنان السماء بسبب التساهل في شروط الإقراض، حيث أصبح قطاع العقارات القائم على قروض فاسدة محركا هاما لنمو الاقتصاد الأميركي، وبالطبع ومع استمرار ارتفاع الأسعار المبالغ فيه وعجز المستهلك الأميركي على الاستمرار في الشراء أو تسديد ديونه، بدأت بعض المؤسسات المالية الأميركية تشعر بالأزمة وتحاول تغطية ديونها بأرصدة حقيقية من خلال بيع أسهمها.

ومع توافر تلك الأسهم وامتداد الشعور بالأزمة انهارت أسعار الأسهم وانتشرت الأزمة من مؤسسة مالية كبرى لأخرى حتى أطاحت الأزمة ببعض أكبر المؤسسات المالية الأميركية والعالمية على الإطلاق وبات من الصعب التدخل لعلاج الأزمة من خلال سياسات اقتصادية تقليدية مثل خفض سعر الفائدة وال1ي يساعد على تشجيع الاقتراض ومن ثم الدفع بحركة الاقتصاد من جديد.

وذلك لأن المستهلك الأميركي فقد الثقة في القروض والاقتراض أصلا، ولم يعد أمام الحكومة الأميركية حلا سوى التدخل لشراء أسهم تلك الشركات وهو حل مكلف للغاية يعيد تشكل فلسفة الحكم والسياسة والاقتصاد في أميركا، كما أنه مكلف ماليا لأنه يحتم على الحكومة شراء أسهم شركات تتهاوي والاستمرار في ذلك حتى تستقر الأسعار المتهاوية عن نقطة ما قد لا يصل لها السوق الأميركي قبل عام 2011 كما يرى التقرير.

أما السبب الثاني للأزمة الاقتصادية الدولية فهو أن دول مثل الصين واليابان ودول شرق أسيا ودول الشرق الأوسط امتلكت خلال الفترة ذاتها فوائض مالية ضخمة بسبب الادخار أو الدخول في فترة نمو اقتصادي غير مسبوقة أو بسبب ارتفاع صادراتها من المواد الخام كالنفط، وللأسف توجهت تلك الدول بفوائضها المالية للاستثمار في القطاع المالي الأميركي والذي در عليهم في البداية أرباح عالية للغاية.

وبهذا غذت فوائض أسيا عجلة القروض الأميركية الفاسدة، ورحبت أميركا بتلك الأموال في ظل سياسات مالية غير مسئولة لتمويل عجز ميزانيتها والحفاظ على عجلة الإقراض وسوق العقارات والاستهلاك بمعدلات غير مسبوقة، وبذلك تحول السوق الأميركي الضخم وعجز الميزانية الأميركية وإقبال الأميركيين على شراء العقارات والاستهلاك إلى عجلة لتمويل نمو الاقتصاد العالمي.

ومع توقف تلك العجلة سادت الأزمة الاقتصادية العالم وبات من المتوقع أن يتراجع نمو اقتصاد أميركا والدول الغربية بنسبة تتراوح بين 2-3% العالم الحالي، وأن يتوقف نمو الاقتصاد العالمي هذا العام لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية وأن يتراجع نمو الصين وغيرها من دول العالم التي تحتفظ بفوائض مالية ضخمة هذا العالم وربما لسنوات قادمة مع استمرار الأزمة الاقتصادية الدولية.

تبعات الأزمة على مكانة أميركا الاقتصادية

ترتب على ما سبق تعرض أميركا للمشاكل الاقتصادية التالية:

أولا: خسارة 15 ترليون دولار أميركي تبخرت مع انهيار الشركات المالية والاقتصادية والبنوك الأميركي التي أفلست بفعل الأزمة، وهي بدون شكل أموال ضخمة ضاعت على الاقتصاد الأميركي.

ثانيا: تراجع قيمة الدولار الأميركي بنسبة 23% في المتوسط أمام العملات الأجنبية في الفترة من 2001 – 2008.

ثالثا: خلال الفترة نفسها وصل عجز الميزانية الأميركية إلى 6%.

رابعا: تراجع نصيب الدولار كمصدر للاحتياطات النقدية الدولية بنسبة 8%، وهي نسبة كبيرة لأن الدولار يمثل العملة الرئيسية الدولية، وقد ترتب على ذلك تراجع نصيب الدولار بين العملات الرئيسية المسيطرة على التجارة الدولية.

خامسا: تراجع الادخار الأميركي لأسوأ معدلاته في 75 عاما، في المقابل زاد الاستهلاك بمعدلات غير مسبوقة.

سادسا: نتيجة لذلك لجأت الشركات الأميركية المنهارة إلى بنوك ومؤسسات مالية أسيوية خلال الأزمة المالية من أجل الحصول على قروض تخرجها من أزمتها، حيث تمتلك تلك الدول ثلثي الاحتياطي النقدي العالمي البالغ 7.2 ترليون دولار، حيث تمتلك الصين وحدها 2 ترليون دولار أميركي من الاحتياطات النقدية.

تبعات الأزمة على مكانة أميركا الإستراتيجية

ويقول التقرير أن الخسائر الكبيرة السابقة الظاهرة في المدى المنظور من شأنها أن تترك تبعات بعيدة المدى على مكانة أميركا الإستراتيجية عبر العالم، ومن تلك التبعات ما يلي:

أولا: تراجع ثقة العالم الاقتصادية في أميركا وفي قدرة أميركا على قيادة العالم من خلال سياسات مالية واقتصادية سليمة خاصة وأن الأزمة الاقتصادية العالمية بدأت في أميركا نفسها بسبب سياسات مالية غير المسئولة وضعف رقابة الحكومة الأميركية وتأخر تدخلها لعلاج مشاكل الأسواق المالية.

ثانيا: ضعف ثقة العالم في الأدوات المالية الأميركية مثل صناديق التحوط وغيرها من الأدوات المالية الأميركية الجديدة.

ثالثا: تراجع هيبة أميركا بعد لجوءها ولجوء أكبر شركاتها للاقتراض من دول أسيا الثرية.

رابعا: تراجع مكانية المؤسسات المالية الأميركية الوطنية والمؤسسات الاقتصادية الدولية التي أسستها أميركا بعد الحرب العالمية الثانية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، فلم تعد الدول الفقيرة في حاجة للاقتراض من صندوق النقد وتحمل شروطه الصعبة في الوقت الذي يمكنها فيه الاقتراض من دول أسيا الصاعدة، وعلى المنوال نفسه سوف تتراجع ثقة تلك الدول في نصائح البنك الدولي وسياسته في مجال التنمية القائمة على مفاهيم أميركية وغربية.

كما ستطالب الدول الصاعدة بدور أكبر في المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة، وسوف تتراجع مكانة الدولة الغربية وتجمعاتها كمجموعة الثمانية أمام مكانة تجمعات أخرى كمجموعة العشرين التي تضم الدول الصاعدة اقتصاديا.

خامسا: من الممكن أن تستخدم الدول الأجنبية المقرضة لأميركا أموالها لأغراض إستراتيجية، من خلال استثمارها في قطاعات تكنولوجية أميركية حساسة كتلك المرتبطة بالإنتاج العسكري، أو من خلال استخدام بنوكها وشركاتها الاقتصادية بالتنسيق مع استخباراتها لإلحاق أضرار اقتصادية بالغة بأميركا.

سادسا: يمكن لأن تؤدي الأزمة الاقتصادية لنزعات أميركية داخلية انعزالية تطالب بفرض سياسات حمائية تحمي الاقتصادي الأميركي من الداخل، خاصة وأن هناك بوادر سياسية لتلك السياسات داخل الكونجرس الأميركي ذاته، ومن شأن فرض تلك السياسات إثارة مزيد من الشكوك الدولية في الاقتصاد الأميركي، وهروب رؤوس الأموال الأجنبية، وتدهور السمعة المالية الأميركية كأكبر أسواق العالم الرأسمالية الحرة، كما من شأنها أيضا الإضرار بالصناعات الأميركية وبقدرتها التنافسية.

وتقول الدراسة أن الأميركيين يشعرون حاليا بنسبة عالية من عدم الثقة في قدرتهم التنافسية تعزز تلك المشاعر الحمائية، وأن تلك النسبة وصلت إلى 72% من الأميركيين في ديسمبر 2007.

سابعا: كل ما سبق يصب في تراجع الرأسمالية الغربية والقيم الليبرالية كنموذج سياسي واقتصادي وأيدلوجي، وهذا يعني تراجع إيمان العالم بالأفكار والقيم الغربية وقدرتها على تحقيق النمو الاقتصادي وتحسين مستوى المعيشة لمواطنيها، وتراجع النفوذ الأيدلوجي الأميركي والغربي عبر العالم.

خاتمة

في نهاية التقرير يدعو مؤلفوه إدارة الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما إلى إدراك أهمية البعد الاقتصادي في الإستراتيجية الأميركية، وإلى بذل جهود مضاعفة لإقناع الأميركيين بالعزوف عن نزعتهم الانعزالية الحمائية في الوقت الراهن، وإلى بث ثقتهم في أنفسهم في تلك الظروف الصعبة وتشجيعهم على الانخراط مجددا في الاقتصاد العالمي.

ويرى التقرير أن صعود القوى الاقتصادية الجديدة يمثل فرصة بقدر ما يمثل تحدي للقوة الاقتصادية الأميركية على المدى البعيد لأنه سوف يعني توسع الأسواق العالمية ورفع الضغوط المفروضة على السوق الأميركي حاليا كأكبر الأسواق الاستهلاكية في العالم، كما أنه سوف يوجد مزيد من الفرص للتجارة والتمنية الاقتصادية للدول النامية والفقيرة وكذلك لنمو الاقتصاد العالمي.

أما فيما يتعلق بعلاج الأزمة الأميركية العالية فيؤكد التقرير على أهمية المرونة والقدرة على التكيف في علاجها، لأن علاجها لن يكون سهلا على المستوى الأميركي والعالمي وقد يستغرق حتى منتصف العقد القادم.

http://www.alaabayoumi.com

......................................

* للإطلاع على نص التقرير، يرجى زيارة

http://www.ndu.edu/inss/index.cfm?secID=8&pageID=126&type=section

Posted

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 5/آيار/2009 - 8/جمادى الآولى/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م