كان الخوف من المباغتة والهجوم، أحد الأسباب الرئيسية في اندلاع
كثير من الحروب، التي خاضتها البشرية. فهو يدفع الدول إلى التهيؤ
والاستعداد، وقد يضطرها إلى الحرب، والحكمة التي تقول: "الهجوم خير
وسيلة للدفاع"تبدو صحيحة، وفقا للتجارب المرة التي عاشتها الشعوب عير
مراحل تاريخا الطويل، وكلما زادت الدولة مساحة وقوة، كلما تزايدت
لديهما المخاوف، وتطلب الأمر أن تكون أكثر استعداداً لخوض الحرب، وقد
يضطرها الخوف وحده إلى الحرب بما يهيئ الأذهان لها، بكثرة والتوقع
والشك في إمكانية اجتنابها.
وفي العصور الحديثة، زادت مخاوف الدول على مكتسباتها الوطنية،
ومدنياتها الزاهرة، وما أنفقت في سبيلها من أموال، وما صرفت في بنائها
من أعمار الشباب. وقد دفع الخوف شعوب هذه الدول،إلى بناء ترسانات
السلاح التقليدي والنووي، من أجل ردع الدول الأخرى،عن الاعتداء عليها،
أو مهاجمتها، أو التعرض لمصالحها، تحت أي ذريعة كانت.
ويبدو أن جل أسباب الحرب في العصر الحديث، تكاد تنحصر في ظروف
الفقر والحرمان، التي يقاسيها أفراد الطبقات المتوسطة والدنيا،
والطبقات المسلوبة الإرادة، التي تعمل في خدمة الطبقات الحاكمة، وطبقات
النبلاء، والبرجوازيين في الدول ذات الهيمنة، وهي تشكل في جملتها أرضاً
خصبة لاشتعال الحرب، فتظهر الجماعات المسلحة، وحركات التغيير، وترفع
شعارات العدل والمساواة، لدغدغة مشاعر أفراد الطبقات المحرومة، فتنطوي
تحت لوائها أعداد غفيرة من الشباب المتحمس للقتال، ونيل شرف المشاركة
في معارك التحرير والاستقلال، وغيرها من المصطلحات البطولية، بينما تقف
الطبقات المتخمة، للدفاع عن مصالحها في بقاء الأوضاع على ما كانت عليه،
فتشتعل الحرب، وتهيج النفوس حتى تحصل تلك الطبقات على حقوقها المشروعة.
وقد وجدنا، إن كثيراً من الدول المتنازعة على الحدود، أو التي
بينها خصومات، وتخشى على مصالحها من دولة أخرى، تستغل انفلات الأمن في
تلك الدولة، فتسعى إلى إضعافها وتدمير قوتها العسكرية، من خلال دعم
ومسانده الطرف المضاد للنظام الحاكم، فتدعم الجماعات الثائرة بالمال
والسلاح والخبرة العسكرية، بطريقة معلنة أو غير معلنة، وهي بهذه
الطريقة لا تخسر شيئا، فإذا كسبت تلك الجماعات الحرب، يكون لهذه الدولة
الداعمة، اليد الطولي في الدولة الجديدة، وإذا خسرت تلك الجماعات حربها
مع النظام الحاكم، فإن الدولة الداعمة تكسب إضعاف قوة تلك الدولة،
واستنزاف قدراتها العسكرية، فلا يكن لها بعد ذلك مجالا لتهديد تلك
الدولة، أو التأثير في مستقبل شعبها، كما أن"الدولة القوية"لا تسمح
للدولة المنكوبة بالحرب وفوضى الاضطرابات، بإعادة بناء قواتها
العسكرية، عبر نفس الوسائل التي تمكنها بالعبث في امن الدولة الأخرى
الداخلي، فتراها كلما هدأت الأوضاع، تسعى مجدداً لإثارة القلاقل
والاضطرابات، فينشغل النظام بنفسه، وتتهدد مقومات الدولة، وقد تنهار
أمام تفاقم الأزمات، واشتداد ضغوط الجماهير الشعبية المستجيبة
للمعسكرات الخارجية، فتكون شريكة في الحرب على النظام.
وقد تقع الحرب لغايات الحرب نفسها، حين تطمع دولة في انتزاع موقع
لازم من دولة أخرى لتحسين دفاعاتها، وراء المخاوف، واتقاء الهجوم عليها،
من قبل دول أخرى معادية لها، ومثل هذه الحرب غير المشروعة، لا تنتهي
أبداً إلا بإعادة تلك المواقع المسلوبة إلى أصحابها، وإبرام اتفاقات
دولية تمنع تكرار مثل هذه الاعتداءات.
ونجد في علم النفس، أن العدوانية المتربعة في قلوب زعماء بعض الدول
وقادتها العسكريين،
والرغبة في بناء الأمجاد الكاذبة،والبطولات القومية الزائفة، وتحقيق
الانتصارات، وقتل أبناء الشعوب المستضعفة، والتلذذ بآلامهم، وقودهم
كالعبيد أمام غطرسة وطغيان الأقوياء،.. كل هذه الأمراض النفسية، قد
تكون سبباً للحرب.
إن سبنياس الفيلسوف الذي رأى ملكه ذا طموح مجنون، قال لملكه مرة:
ماذا تريد أن تفعل؟ قال:
أريد غزو العالم، وأبدأ بآسيا الصغرى. قال: وبعد؟ قال: بلاد
فينيقية ومصر. قال: وبعد؟ قال: بلاد العرب. قال: وبعد؟ قال: بلاد فارس.
قال: وبعد؟ قال: بلاد الهند؟ قال: وبعد؟ قال: بعد ذلك أستريح ! فقال له
سبنياس: ولماذا لا تستريح من الآن؟!..
إن هذا الملك يفسر العدوانية بأعمق صورها، ويفسر الرغبة في ابتلاع
كل شيء، في سبيل مجد كاذب أو طموح مجنون.
ويذهب بعض القادة الزعماء المستبدّين، إلى الحرب في الأزمات، لتحويل
أنظار الشعوب عن ما يشغلها عن الثورة، والانتفاض ضد الطغيان
والاستبداد. وفي مثل هذه الحالة، يتم تجنيد الشباب وإرسالهم إلى مواقع
القتال، ويتم استخدام النساء والأطفال في تجهيز مؤن الجيش، أو إلحاقهم
في صفوف التمريض. بينما تنقطع الإمدادات، مثل مياه الشرب، والخبز،
والمواد الأساسية، عن جماعة الناس في الدولة، فيكون شغلها الشاغل،
تأمين تلك الاحتياجات، والوقوف في طوابير بعيدة، من أجل الحصول على
اليسير منها.
ويجد بعض علماء الاجتماع، أن الطاعة وحسن الانقياد للزمرة الحاكمة،
سبب من أسباب الحرب، فالتربية القائمة على الإفراط في إتباع النظام،
تنشئ العقلية العسكرية، وتجني على استقلال الأفراد، فتسهل قيادتهم إلى
ما يريده القابضون على السلطة، ولو تربى الأطفال مستقلين، لما استطاع
القادة سوقهم إلى المجازر، أو لربنا وقفوا في وجه الظلم
والطغيان،ومنعوا الزمرة الحاكمة من الاستبداد والاستئثار بخيرات
البلاد، على حساب الفقراء والمحرومين من سكان البلاد الأصليين.
إن القيادات الحاكمة المستبدة بالسلطة، غالباً ما تعبث بنظام
التربية والتعليم، والتعليم العالي، وتخترق أندية الشباب ومعسكراتهم،
وتنشر العيون في البيوت، وفي المقاهي، وأماكن تجمعات الشباب، وتسيطر
على وسائل التوعية والتثقيف، وتمارس رقابتها على كل منتج ثقافي، من أجل
أن تخلق جيلاً، يقبل كل ما يصدر إليه من أوامر السلطة، من غير تعليل أو
مناقشة، كما أنه يصدق كل ما تصرح بت، وأن كان يخالف المنطق والحقيقة.
فإذا أعلن القابضون على السلطة الحرب ظلماً وعدواناً، لا تجد بين
الجماهير من يعترض سبيلها، والكل يذهب إلى الحرب.
dar_afak@yahoo.com |