المستشار مهنة من لا مهنة له

لطيف القصاب/مركز المستقبل للدراسات والبحوث

من المفاهيم التي سادت الثقافات الإنسانية قديما وحديثا ما يتعلق بمعنى المشورة وطلب النصح من ذوي الخبرة والاختصاص، وكل من جرب دراسة شطر من تاريخ الفكر الإنساني بحقبه الماضية وصولا إلى الفترة المعاشة من حياة هذا الفكر لابد انه يدرك أهمية الأثر العظيم الذي خلفه ويخلفه سر الاستشارة في النهوض بمستوى الحياة الإنسانية على الصعد كافة.

 ويرجع الكثيرون السبب في أهمية التعويل على الاستشارة حتى من قبل أولي الحنكة والحصافة من الناس إلى أن المستشار أكثر قدرة من المستشير على التجرد من الأهواء والرغبات حينما ينظر في تقدير مسألة من المسائل وبالتالي إيصاء المستشير بضرورة اتخاذ قرار ما، الأمر الذي لا يوجد ما يناظره عادة لدى المستشير مهما بلغ الأخير من درجات الحكمة والتعقل.

 ولكي لا نذهب بعيدا في استطرادات من شانها النأي بنا عن الهدف الرئيسي المراد من هذه المقدمة، نقول إن لفظة المستشار قد فقدت الكثير من دلالاتها ولوازمها الاعتبارية هذه الأيام، لاسيما في بلد مثل العراق وقد يكون مرد هذا التدني في الدلالة على معنى المستشار يرجع إلى تاريخ اسبق من هذه اللحظة الحاضرة أو الحقبة الحاضرة.

 فمما لاشك فيه أن جملة من سياسات النظام السابق كانت قد تعمدت الإستهانة بالكثير من الألقاب والعناوين الوظيفية والإدارية تماشيا مع رغبة سياسية بدائية تتحسس الخشية من سطوة اللقب والعنوان الإداري البارز من جهة وتفتح الباب على مصراعيه امام تعيين الجهال من الموالين لذلك النظام.

وهكذا فقد شهد العراقيون شيوع ظاهرة وجود غير المؤهلين على رأس مفاصل حساسة من أجهزة الدولة المتعددة، وتنصيب مسؤولين كانوا لا يستحقون المواقع التي تسنموها بكل تأكيد.

وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد تبوأ عدد من عرفاء سابقين في بعض صنوف الشرطة والجيش مناصب وزارية كثيرة ابتداء بوزارتي الداخلية والدفاع وانتهاء بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وجريا على هذه السنة السيئة يستطيع أي مراقب أن يؤشر بإصبع كبير على أسماء معروفة تحتل مواقع سياسية وإدارية مهمة في عراق ما بعد التغيير وهي لا تمتلك من شروط الوصف الوظيفي المطلوب إلا ما كان يملكه سمير الشيخلي وحسين كامل وعلي حسن المجيد واضرابهم مع اختلاف أن الحقبة الماضية كانت تولي المستشار عناية كبيرة نسبيا إذا ما قورنت مع الفترة اللاحقة فقد أنجب مبدأ المحاصصة السياسية جيلا من المستشارين ليس لهم من هذا المسمى الخطير إلا الاسم وما يستتبعه هذا الاسم من امتيازات بصرف النظر عن تقديم خدمات ازاء تلك الامتيازات.

 وفيما عدا الرغبة بتعيين الموالين للطبقة الحاكمة فأن هاجس الحفاظ على هذه الطبقة التي اخرجتها الى ارض الواقع أحداث الاطاحة بالنظام السابق قد لعب دورا مهما في الإبقاء على الكثير ممن لفظتهم الانتخابات النيابية والمحلية المتتابعة فظلوا قابعين في مواقع بارزة من المشهد السياسي والإداري من غير وجه استحقاق، وعلى هذا الأساس فقد حصل العديد منهم على لقب مستشار في شؤون يجهلونها أو كانوا قد فشلوا فيها فشلا ذريعا.

إن مصادر الاستشارات على اختلاف أشكالها وأنواعها وبحسب المختصين في تتبع هذه الظاهرة الحضارية لا تخرج عن احد منبعين لا ثالث لهما، الأول منهما يمكن الإتيان به أما بواسطة الاختصاص الدقيق أو الخبرة الطويلة فيما يخرج الثاني من سعة أفق المستشار ونفاذ بصيرته ليس إلا، وخير المستشارين ما كان بمقدوره التزود من كلا الموردين المذكورين بحيث يستطيع اختراق حجب المستقبل والإطلالة على خفاياه المجهولة مدفوعا بشجاعة القلب وقوة الحدس المطعمة بالخبرة المهنية الناجحة.

 وفي ظل ما سبق طرحه نستطيع قراءة الدعوة التي خرجت من احد مجالس المحافظات المشكلة حديثا والتي تقضي بخلق هيئة استشارية قوامها الأعضاء الفاشلون في الانتخابات المحلية الأخيرة على أنها نمط جديد لما كان يعرف سابقا بإعادة صناعة التالف أو المعاد، والقصد من وراء هذه اللعبة المكشوفة هو المحافظة على طبقة سياسية كانت قد أفرزت في سياقات تاريخية مأزومة ويراد لها أن تبقى إلى اجل غير مسمى، كما أن هذه المحاولة تمثل من جهة أخرى إساءة بالغة بحق شخصية المستشار الحقيقي وتحط من قيمة هذه الوظيفة المهمة إلى الحد الذي يجعل منها مجرد مهنة من لا مهنة له.

* مركز المستقبل للدراسات والبحوث

http://mcsr.net

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 26/نيسان/2009 - 30/ربيع الثاني/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م