أيهما أولا: الحرية أم المسؤولية؟

صادق جواد سليمان

عرضي هو بمثابة تأطير نسقي لموضوع الحرية وما يفرض على الحرية، بمبرر  المسؤولية، من قيد، أو يوضع لها من حد.  وعرضي يأخذ شكل تعامل مفاهيمي من خلال الإجابة على أسئلة أخالها محورية، وهي  خمس.  ما أقوله يعكس نظريَ الشخصي، كما أنه يعكس، بوجه عام، ما أجده قد استقر في أدبيات حقوق الإنسان، واندرج في استحقاقات المواطنة المتكافئة، لدى العديد من مجتمعات هذا العصر.

السؤال الأول: هل الحرية ضد المسؤولية، بحيث - على قاعدة أن الضدين لا يجتمعان - إذا حضرت الحرية انتفت المسؤولية، وبالعكس؟

الجواب طبعا: كلا. الحرية والمسؤولية هما بمثابة كفتي الميزان، لابد من تواجدهما معا في تقابل، لأجل تعزيز الاستقرار وتفعيل النماء معا في تزامن.  في كفة الحرية ننشد تحقق الأفراد في كافة القابليات الإيجابية التي أودعها الله فيهم، الأمر الذي، من ثم، يثري خبرة الحياة على صعيد الفرد والمجتمع بسواء.  أما في كفة المسؤولية، فنحرص على حماية الصالحِ الوطني المشترك والصالحِ الإنساني العام،* مما يبدر أحيانا، بل مرارا وتكرارا، من أفراد أو تنظيمات متعددي المنطلقات والوجهات، من تصرفات ضارة، مؤذية، أو مجحفة.

السؤال الثاني: أيهما أولا: الحرية أم المسؤولية؟

وجوابي: الحرية أولا، إذ الأصل في حال الإنسان أن يكون حرا، أي أن يكون متاحا له أن يفكر بحرية، أن يقول ما يرى، وأن يتصرف في شأنه الخاص حسب ما يرتئي ويريد، لكي يحقق كُمونه الإنساني، أي القابليةَ المكنونة فيه فطرة، على أوفى وأحسن وجه.  ما يفرض من بعد ذلك من قيد، أو يوضع من حد، على حرية المرء، فهو أمر عارض على أصل ثابت. 

السؤال الثالث: ما طبيعة هذا القيد، أو الحد، العارض على الحرية؟

القيد أو الحد العارض إما ذاتي المنشأ أو خارجي الفرض.  القيد أو الحد الذاتي هو ما يلزم به المرء نفسه من حيث الامتناع عن التعدي على الآخر بإضرار أو إيذاء أو هتك حرمة أو مس كرامة، أو حتى خدش شعور.  قياس ذلك يعود للمرء نفسه، محكوما بمدى وفوره المعرفي وانضباطه الخلقي. القيد أو الحد الذاتي لا يكبت قابليات المرء، وإنما يصونها عن الخطل  (لعل على غرار ما استهل به الطغرائي لاميته الشهيرة: أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل).  نعم، القيد أو الحد الذاتي لا يكبت قابليات المرء، وإنما يصونها عن الخطل، ويوجهها لما فيه نماؤه، وتباعا، نماء الأسرة والمجتمع. 

أما القيد أو الحد الخارجي فهو ما يفرض على المرء، إما اعتباطا، أو أنه يفرض بسلطة القانون.  ما يفرض اعتباطا يكون قسرا، في الغالب لتنفيذ مأرب غير مشروع مستبطن لدى من يفرض القيد أو يضع الحد. أما ما يفرض بسلطة القانون فيفترض أن يكون لا اعتباطا ولا قسرا، بل إجراء مشروعا يقصد به حماية الصالحِ الوطني المشترك والصالحِ الإنساني العام.*  ولعلي ألاحظ في هذا المعرض أن في الصورة الكبرى، في التحليل الأخير، لا توجد مصلحة شخصية حقيقية بمنأىً عن الصالحِ الوطني المشترك، كما لا يوجد صالح وطني مشترك حقيقي بمنأىً عن الصالحِ الإنساني العام.*  الفهم خلاف هذا، بنظري، ينم عن قصر نظر، اي عن قصور في الإدراك أن الصالح في الشأن الإنساني مترابط جذريا في جميع الأحوال، يسند بعضه بعضا، وأن الطالح أيضا هكذا مترابط ومتساند. 

*السؤال الرابع: ما الوضع الطبيعي للفرد في مجتمع موازن بين الحرية والمسؤولية؟

وضع المرء في مجتمع موازن حقاً  بين الحرية والمسؤولية - وب "حقا" أقصد إقراراً بالقانون وتفعيلاً في التطبيق -  ذلك يقوم على أمرين لا يتحصل التوازن الحقيقي إلا بهما معا في ترادف. الأمر الأولُ هو تمتعُ الفرد بالحرية فيما يفكر ويعبر، وفيما يتصرف إزاء ما يعنيه شخصيا، دونما اعتداءٍ يبدر منه على  الآخرين، ودونما إضرارٍ يُلحقه بالصالحِ الوطني المشترك والصالحِ الإنساني العام.*  يردف ذلك الأمرُ الآخرُ: وهو امتناعُ سلطة القانون عن تقييد حرية الفرد أو حدها إزاء ما يفكر ويعبر ويتصرف إذا كان ما يأتيه لا عدوان منه ولا إضرار ولا إيذاء.  أما حيث تدعي سلطة القانون أن فيما  يأتيه شخص أو جماعة عدوان إو إضرار أو إيذاء مما يوجب القيد أو الحد، في تلك الحالة على سلطة القانون  يقع عبئ تقديم البينة للإثبات أمام القضاء.  

*السؤال الخامس والأخير: ماهي تفريعات الحرية؟  بتعبير آخر: بما أن الحرية مفهوم جامع لا جامح، وبما أنها الأصل في الحال الإنساني على الصعيدين الفردي والمجتمعي، فما هي أطرها الرئيسة، وماذا نصنف في كل إطار للحرية من تفريعات محددة؟ 

في مُدرَكي، للحرية أطر رئيسة أربع: إطار سياسي، وآخر اقتصادي، وثالث اجتماعي، ورابع فكري.  في الإطار السياسي نصنف حريةَ التجمع، حرية الصحبة، حرية الحركة، حرية الصحافة، حرية التعبير،  حرية التمثيل –  التمثيل بمعنى حرية تفويض شخص آخر – عن طريق عملية دستورية مبينة - بالنظر والتقرير في الأمور المتصلة بالشأن الوطني المشترك.  في الإطار الاقتصادي نصنف حرية الكسب، حرية الإنفاق، حرية التملك، حرية الوهب، حرية التعاقد مع الآخر لتحقيق نفع متبادل مشروع.  في الإطار الاجتماعي نصنف حرية الزواج والإنجاب والطلاق، حرية اختيار الملبس والمأوى، حرية الحل والترحال، حرية تمكين الذات بعناصر النماء، حرية إسعاد النفس بطيبات الحياة.  في الإطار الفكري نصنف حرية المعتقد والتعبد، حرية الإطلاع على عموم الإرث الإنساني من أديان وفلسفات ومناهج معرفية وألوان أدبية وفنية، وحرية البحث العلمي لاستكشاف بواطن الطبيعة وأسرار الحياة، استظهارا وتفعيلا لما حبا الله الإنسان من إمكانات التمدد معرفيا والتسامي خلقيا، دونما حد أو سقف. 

*الخلاصة، وبها أختم:

في عموم الأمر، أرى الناس أحرارا في أوطانهم بتوارد أربعة عوامل في خبرتهم الوطنية كمجرى مستدام. 

العامل الأول: إذا تكافؤوا على أرضية المواطنة في الحقوق والواجبات، ضامنين التكافؤ ما بينهم بتأصيل دستوري وتطبيق قانوني.

العامل الثاني: اذا احترموا حقوق وحريات بعضهم البعض ليس كمطلب دستوري قانوني فحسب، بل أيضا كواجب أخلاقي صميم لا يُساوَم ولا يُكسَر.

العامل الثالث: إذا السلطات الوطنية لم تفرض على حريات المواطنين قيودا أو حدودا مجحفة، أي تلك التي لا يمكن تبريرها بداعي الصالحِ الوطني المشترك والصالحِ الإنساني العام.*

  العامل الرابع: إذا الوطن حافظ على استقلاله وسيادته بكافة الوسائل المشروعة المتاحة له، ردعاً لأي عدوان محتمل، وصداً لأي عدوان ماثل أو واقع.      

حوارات جانبية

أثناء الحوار الذي أعقب العرض، في حوارات جانبية،  طرحت أسئلة استدرت الملاحظات التالية:

الصالح العام

الصالح العام يُعرّف ولا يُحدد.  هو يُعرّف من حيث كونه الحال الذي يتعارف الناس، أو معظمهم الكاثر، على لزومه لصلاح الإنسان، فردا ومجتمعا.  وهو لا يُحدد، لكون محتواه من جهة وسيع سعةً غير قابلة للتحديد، وكونه من الجهة الأخرى قابلا للتغيير نسبيا تناسبا مع تغير الظروف. الصالح العام لا تُعرّفه حكومة ولا معارضة، ولا فئة ولا هيئة بمفردها أيا كانت، بل يُعرّفه سواد المجتمع الوطني فيُصطلح بالصالح الوطني المشترك، ويُعرّفه سواد المجتمع الإنساني فيصطَلح بالصالح الإنساني العام.  وهو في الحالتين جذريا متواصل ومتناسق.

في النسق الإسلامي يقارب مفهوم الصالح العام مفهوم العُرف أو المعروف، وهو ما يتعارف الناس عامة على صوابه وصلاحه.  وقد جاء في القرآن الكريم الندبُ مرة إلى العُرف، ومرات عديدة إلى المعروف، بقوة الأمر:  خذ العفو وأمر بالعُرف وأعرض عن الجاهلين (7:199)   ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (3:104)    

أهمية الندوة

هذه الندوة لعلها الأولى التي تتعامل مع موضوع الحرية والمسؤولية - موضوع طالما تراوح في حواراتنا الخاصة لكنه لم يستعرض حواريا – على ما أعهد –  في إطار ندوة مفتوحة نتحدث فيها تفاعليا وبصوت عال.

العلاقة التقابلية بين الحرية والمسؤولية هي من طبيعة الأمور في الشأن الإنساني، لذا النظر فيها والتوضح حولها ليس أمرا خاصا بنا وحدنا في المجتمع العماني.  عبر العالم هناك بحث دائب واجتهادات متطورة لبلورة أمثل صيغ التوازن بين الحرية والمسؤولية لآجل تحقيق تنمية إنسانية شاملة في مناخ استقرار سياسي اجتماعي ممكّن وميسّر.  ذلك أن الحرية بمعزل عن المسؤولية تؤول ضربا من فلتان، كما أن الطرق الدائب على المسؤولية دون تأكيد الحرية كحق أصيل، وطنيا وإنسانيا، يحجم قابليات التحقق الذاتي للأفراد ويضعف لديهم مبادارات الابتكار والإبداع.

الحراك الثقافي   

من خلال ما أرصد في الحراك الثقافي في مجتمعنا ألمس رغبة متعاظمة في تعريض أفقنا المعرفي.  ألمس إدراكا متناميا بأن الثقافة، ثقافة أيما مجتمع وطني، إنما تستثري بقدر ما تودع فيها من معرفة ويغرس في نشئها من حب الاستطلاع والبحث العلمي.  في ندوتنا هذه لمست حرصا على التعامل مع موضوعنا الشائك والشيق معا تعاملا ذا طابع معرفي – أي حرصا على عرض ما نفهمه أولا ثم عرض ما نرتئي بموضوعية واعتدال.  بنظري، الاستبصار بالحقائق أولا وعرض الآراء بناء على الحقائق من بعد ذلك ينبغي أن يكون نهجنا في عموم حوارنا الوطني.

* سفير عُمان السابق في واشنطن وطهران

[email protected]

................

** ورقة مقدمة الى ندوة بعنوان:  بين فضاءات الحرية وحدود المسؤولية التي عقدت برعاية الجمعية العمانية للكتاب والإدباء

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 24/نيسان/2009 - 28/ربيع الثاني/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م