النزوح والتهجير.. المعضلة القديمة المتجددة في العراق تقفز الى الواجهة

 

شبكة النبأ: تفاقمت أزمة النزوح الداخلي في العراق حتى بات إيجاد حل لها مسألة حيوية؛ فمقابل 2.8 مليون لاجئ خارج العراق، هناك حوالي 2 مليون عراقي نازح ومهجّر داخل العراق. ما يعني أن من 15 ـ 20 في المائة من العراقيين يعيشون خارج أماكنهم الأصلية.

حول هذه المشكلة وتداعياتها وبدائل حلها، تضمنت إحدى الأوراق التي قدمت مؤخرًا في منتدى "الولايات المتحدة والعالم الإسلامي ـ الذي عقد في الفترة من 14ـ 16 فبراير الماضي ـ تقريرًا بعنوان "المهجرون العراقيون: الحاجة إلى حلول، أعدته إليزابيث فيريس، وهي زميلة كبيرة والمديرة مشاركة لمشروع بروكينجز ـ برن حول النزوح (التهجير الداخلي).

توصيف المشكلة

يبدأ التقرير بعرض موجز للوضع الحالي لمشكلة المهجرين العراقيين، فيرصد أن وتيرة النزوح والتهجير تراجعت منذ منتصف عام 2007 بفضل تحسن الوضع الأمني. إلا أن عددًا محدودًا فقط من اللاجئين خارج العراق والنازحين داخله، تمكنوا من العودة إلى موطنهم. ففي حالات كثيرة كانت ممتلكاتهم ومنازلهم قد تعرضت للاستيلاء، وأحيانًا كان بعض النازحين داخل العراق ينتقلون إلى أماكن أُجبر أصحابها على مغادرتها. وفي بعض الحالات كانت الميليشيات هي التي تستولي على الممتلكات والمنازل، وتؤجرها بأسعار مناسبة لأنصارها، وفي بعض الأوقات كان بعض العراقيين ينتقلون إلى منازل هاجر أصحابها، طمعًا في أماكن أفضل للإقامة. وكلما طال أمد النزوح، زادت المشكلة استعصاءً على الحل. بحسب موقع تقرير واشنطن.

وتشير الكاتبة في التقرير إلى أن النزوح (الهجرة الداخلية) ليس نتيجة عَرَضية للصراع والعنف المسلح فحسب، وإنما هو بذاته أحد أهداف واستراتيجيات ذلك الصراع، ووسيلة لتحقيق السيطرة الميدانية وتكريس السلطة السياسية. حيث يؤدي النزوح المرتبط بعمليات التطهير الطائفي، لتغيير دائم في خريطة الانتشار الجغرافي للطوائف في العراق، فكثير من المناطق التي كانت في السابق ذات هويات طائفية متعددة، عرقية ودينية وغير ذلك؛ تحولت إلى تجمعات أحادية الهوية تضم طائفة معينة فقط. ورغم أهمية تلك النقطة إلا أنها لم تحظ بتفاصيل وافية أو تحليل متعمق كانت جديرة بهما.

التداعيات الداخلية والخارجية لهجرة العراقيين

بعد توصيف المشكلة تنتقل الكاتبة في تقريرها إلى تناول التداعيات المترتبة على عمليات نزوح وهجرة العراقيين، منها الصعوبات التي تواجه إقامة البنية التحتية والخدمات الأساسية بسبب نزوح العمال والحرفيين إلى مناطق أخرى. وهناك أيضًا ما وصفه السفير العراقي لدى الولايات المتحدة بهجرة "الاعتدال" حيث تدفقت أعداد من عائلات الطبقة الوسطى العراقية إلى دول الجوار العراقي، هربًا من تهديدات الجماعات المتطرفة والطائفية، بالانضمام إليها أو التعرض للإبادة. وقليل فقط من أولئك "المعتدلين" هم من يفكرون بالعودة إلى العراق.

ووفقًا لكاتبة التقرير فإن ثمة خطرًا آخرَ على التركيبة الديمغرافية العراقية، يكمن في هجرة أعداد كبيرة من العراقيين المنتمين لأقليات مثل المسيحيين، الصابئة، اليزيديين، وغيرهم. ما سيكون له انعكاسات سلبية للغاية على التنوع والتعدد في المجتمع العراقي.

وعلى الصعيد الخارجي، يرى التقرير أنه ما من دولة في المنطقة ـ بل وفي العالم ـ ترحب باللاجئين العراقيين. فسوريا والأردن اللتان تستضيفان أكبر عدد من اللاجئين العراقيين (1.5 مليون في سوريا،750 ألف في الأردن) لديهما هواجس كثيرة بشأن أولئك اللاجئين، بدءًا من العبء الاقتصادي لاستضافتهم، مرورًا بالانعكاسات الأمنية المحتملة لتواجد تلك الأعداد الكبيرة من العراقيين، انتهاءً بالأوضاع المعيشية والفقر الذي يزداد انتشارًا بينهم، ما ينذر باحتمال لجوء الرجال منهم للانضمام إلى جماعات مسلحة، بينما تلجأ النساء إلى احتراف البغاء. وبالفعل، ازدادت ممارسة الدعارة وتجارة الرقيق الأبيض في سوريا، بشكل دفع الحكومة السورية إلى سنِّ تشريع للتعامل مع تلك الظاهرة الجديدة.

وبشكل عام، لجأت الدول المستقبلة للاجئين العراقيين إلى تشديد إجراءات دخول العراقيين إليها. ولا يمثل اللاجئون العراقيون مشكلة للدول المجاورة فحسب، بل لدول كثيرة في العالم، فأكبر عدد من طالبي اللجوء السياسي في العالم هم عراقيون.

مساعدات غير كافية وخيارات صعبة

هناك جهود كبيرة تبذل لمساعدة العراقيين المهجرين خارج العراق، لكنها إما غير كافية بذاتها، أو أنها لا تصل كاملة إلى من يحتاجونها من العراقيين. ووفقًا للتقرير، فإن 547.3 مليون دولار مخصصة في عام 2009 للتعامل مع مشكلة النازحين العراقيين، سيوجه منها 192.3 مليون دولار لمساعدة العراقيين العائدين إلى بلدهم. و355 مليون دولار للاجئين الموجودين خارج العراق.  

ورغم ذلك فإن المساعدات لا تكفي اللاجئين والنازحين العراقيين، ويشمل ذلك كلاًّ من الأغذية والإقامة والعمل.

ووفقًا لتقارير منظمة الهجرة الدولية، فإنه ورغم تراجع معدلات نزوح وهجرة العراقيين، إلا أن أوضاع المهجرين منهم والنازحين بالفعل، لا تشهد تحسنًا بل تزداد سوءًا.

وتطرح الكاتبة في تقريرها عدةَ بدائلَ وحلولاً لمشكلة نزوح وهجرة العراقيين. ففيما يتعلق باللاجئين العراقيين في الخارج، هناك ثلاثة بدائل أساسية: هي العودة، البقاء والاندماج في بلد اللجوء، وأخيرًا إعادة التوطين في بلد ثالث.

ورغم أن خيار العودة هو المفضل دائمًا لأي لاجئ، إلا أنه ليس قابلاً للتنفيذ بيسرٍ. وفي الوقت ذاته، البديلان الآخران ليسا أيضًا متاحين بسهولة. فالبقاء في الدول المستقبلة لا يمثل خيارًا مفضلاً لدى تلك الدول في ضوء الخبرة العربية في إيواء اللاجئين الفلسطينيين أكثر من 60 عامًا. أما خيار التوطين في بلد ثالث، فقد قامت به الولايات المتحدة قبل غزوها للعراق، إذ كانت تقيم لديها أعداد من المعارضين العراقيين لنظام الرئيس السابق صدام حسين. ثم استمرت واشنطن في عمليات إعادة التوطين ومنح حق الهجرة الكاملة للعراقيين الذين خدموا لدى القوات الأمريكية أو عملوا لحساب شركات تعاونت معهم. وكانت الأعداد قليلة للغاية بعد الغزو مباشرة، فحتى عام 2006 لم يزدْ العدد عن 202 عراقي. ثم أخذ في التزايد باطراد فوصل في عام 2007 إلى 1608عراقي، ثم قفز في 2008 إلى 13823عراقي. ومن المقرر أن يحصل 17000 عراقي على حق الإقامة الدائمة في الولايات المتحدة خلال هذا العام 2009. ورغم ضخامة الرقم وتسارع معدل الزيادة فيه، إلا أنه يظل أقل كثيرًا من المطلوب، فمع نهاية عام 2009 سيكون حوالي 85 ألف عراقي في حاجة لإعادة توطينهم.

أما النازحون والمهجرون داخل العراق، فإن الخيارات الثلاثة متاحة أمامهم لكن داخل الأراضي العراقية، فإما أن يعودوا إلى أماكنهم الأصلية أو يستمروا في المناطق التي انتقلوا إليها، أو ينتقلوا إلى منطقة ثالثة داخل العراق أيضًا. ونظرًا لتمتع أولئك النازحين بحق التنقل داخل العراق بصفتهم مواطنين عراقيين، ومع تزايد أعدادهم، فرضت سلطات المحافظات العراقية إجراءات لتقييد حركة أولئك النازحين وتنقلاتهم بين المحافظات، وشملت تلك الإجراءات الهوية الطائفية، ووجود روابط أو صلات سابقة للنازح في المنطقة أو الإقليم الذي ينتقل إليه، سواء كانت روابط اجتماعية، أو علاقات عمل.

ومقابل هذه الصعوبات التي تحيط بخيار العودة، سواء للاجئين خارج العراق أو النازحين داخله، ثمة عوامل تشجع على العودة، أهمها سوء الأحوال الاقتصادية والمعيشية لأولئك اللاجئين والنازحين في أماكن تواجدهم. إضافة إلى تحسن الوضع الأمني داخل العراق، فضلاً عن أن خيار العودة هو المفضل لدى الدول المستقبلة للاجئين.

ورغم ذلك، إلا أن النسبة الغالبة من العراقيين العائدين إلى أماكنهم الأصلية هم من النازحين داخل العراق. ووفقًا لمسحٍ قامت به منظمة الهجرة الدولية، تتراوح هذه النسبة من 86 ـ 92 في المائة من إجمالي العائدين.

أما اللاجئون في الخارج، فمشكلاتهم متنوعة معقدة، تبدأ من الأقليات والبعثيين والذين خدموا في جيش صدام، حيث تساور كل هؤلاء مخاوف كبيرة من مصيرهم حال عودتهم، ما يجعلهم غير راغبين في التفكير بمسألة العودة إلى العراق. لكن التقرير لم يتطرق في هذه الجزئية إلى التطورات الإيجابية التي حدثت داخل العراق باتجاه استيعاب تلك الفئات والشرائح المنتمية للعهد السابق.

أما غيرهم من العراقيين ـ الذين لا ينتمون لكل ما سبق ـ، فلا يزالون في حالة ترقب لما ستؤول إليه الأوضاع داخل العراق، حتى إن كثيرًا منهم عاد إلى العراق للزيارة ثم خرج مرة أخرى. أما من عاد ليبقى، فقد واجه مشكلتين أساسيتين هما: العنف والبطالة. فالتحسن الأمني الحاصل لم يوقفْ كليةً أعمال العنف حتى إن عائلاتٍ بأكملها عدلت عن قرار البقاء وهربت مرة أخرى خارج العراق. وللمرأة على وجه الخصوص نصيب كبير من العنف، خاصةً من جانب الجماعات الإسلامية التي تفرض قيودًا مشددة على حركتهن وتنقلاتهن.

من جانبها، تحاول الحكومة العراقية تشجيع المهجرين في الخارج والداخل على العودة، وذلك بتوفير رحلات طيران مجانية للاجئين في الخارج، وتمنحهم ـ ومهجري الداخل أيضًا ـ مساعدات مالية، كما أنشأت الحكومة "مركز مساعدة العائدين" في بغداد وبصدد إقامة فروع له في المدن الأخرى.

وبالتوازي مع تلك الخطوات، بادرت الحكومة في بغداد إلى إصدار قرارات تساعد على تنظيم عودة المهجرين واللاجئين خاصةً في مجال الإسكان، حيث أقرت حق العائدين في استعادة مساكنهم وممتلكاتهم.

ومن الضروري الأخذ في الاعتبار أن ثمة مشكلات تصاحب زيادة معدلات عودة اللاجئين والمهجرين، حيث يترتب على تلك العودة تهجير جديد للعائلات والأفراد التي استولت على المنازل والممتلكات المهجورة سابقًا، وعلى سبيل المثال، ففي حي من أحياء بغداد، هو "الرصافة" وجدت 512 عائلة مهجرة من مناطق أخرى، أن عليهم المغادرة مجددًا والبحث عن أماكن بديلة أو العودة بدورهم إلى مناطقهم الأصلية. والمعنى، أن مشكلة تسكين العائدين واستعادتهم لمنازلهم وممتلكاتهم ليست يسيرة، بل هي ذاتها تضع "واضعي اليد" في حالة نزوح جديدة.

ويلاحظ هنا أن التقرير يتعامل مع تداعيات العودة بمنطق الأمر الواقع، وليس بما يجب أن يكون، حيث يتوقف في مصير "واضعي اليد" عند تهجيرهم مجددًا، دون أن يشير مثلاً إلى أنهم وافدون من مواطن أصلية والطبيعي أن يعودوا إليها، أو أنهم "معتدون" على ملكية غيرهم، وبالتالي عليهم تحمل تبعات تصحيح هذا الوضع.

بالإضافة إلى المشكلات المترتبة حصريًّا على عودة اللاجئين والنازحين، هناك المشكلات والأوضاع التي يعانيها العراقيون أصلاً، وهي البطالة وسوء الخدمات الأساسية خاصةً مياه الشرب والكهرباء، وستزيد عودة اللاجئين بالضرورة من حدة تلك المشكلات.

والواضح أن مسئوليات كبيرة فيما يتعلق بهذا الأمر تقع على عاتق الأمم المتحدة، وهي بالفعل تحاول التعامل مع هذه المشكلات سواء المرتبطة بعودة اللاجئين والنازحين، أو بالأوضاع المعيشية والإنسانية في العراق بشكل عام، إلا أن مصاعب متراكمة تواجه عمل الأمم المتحدة، بعضها ناجم عن الانطباع السيئ عنها لدى العراقيين بسبب العقوبات الدولية والملابسات التي صاحبت برنامج "النفط مقابل الغذاء". وهناك صعوبات أخرى ناجمة عن تناقص المخصصات الموجهة لمساعدة ودعم العراق. خاصة من جانب الولايات المتحدة التي خفضت بالفعل حجم مساعداتها للعراق، ولا يتوقع منها بالطبع غير ذلك في ضوء اتجاهها إلى تخفيف تواجدها العسكري وخفض أعداد جنودها هناك.

توصيات وحلول للمشكلة

يقدم التقرير في النهاية عدة توصيات أو نصائح تربط في مجملها حل مشكلة اللاجئين والنازحين بمستقبل الوضع في العراق ككل. وتبدأ هذه النصائح بإشارات تنبيه وتحذير إلى أن التهجير ليس مسألة إنسانية فحسب، لذا يجب أن يكون التعامل معه بمنظور أوسع من الاقتصار على المساعدات الإنسانية. وحل هذه المشكلة ـ وفقًا لكاتبة التقرير ـ يعد متطلبًا أساسيًّا للاستقرار وإعادة بناء الدولة العراقية.

فمن ناحية سيؤدي عدم التعامل بنجاح وفعالية مع هذه المشكلة، إلى مزيدٍ من التعثر في المصالحة الداخلية بين العراقيين. كما أن إسهام العائدين في تحسين الأوضاع الاقتصادية وإعادة بناء المرافق والخدمات سيظل رهنًا بتوفير أوضاعٍ مستقرة وبيئية آمنة لهم ولعائلاتهم.

وعليه، يطلب التقرير وضع خطة عمل متكاملة، تشمل مختلف جوانب المشكلة وتتعامل معها بمستويات متنوعة. مثل تشجيع العودة الطوعية للاجئين، والتفاوض مع حكومات الدول المضيفة وتشجيعها على الاستمرار في استضافة من لا يستطيعون العودة إلى العراق.

في الشق الأول، تضطلع الحكومة العراقية بالجانب الأكبر من المسئولية عن عودة لاجئي الخارج ومهجري الداخل، فهي التي ينبغي عليها الإشراف على تلك العودة وتقديم الضمانات اللازمة لاستعادة أولئك العائدين حقوقهم.

وأول الخطوات المطلوبة فيما يتعلق بهذا الأمر، أن تكون هناك مراقبة ميدانية ومتابعة على الأرض لعمليات عودة اللاجئين والنازحين، بما يضمن لهم الأمن والسلامة. ويمكن أن تشترك في هذه العملية المنظمات غير الحكومية سواء العراقية أو الدولية. ويُطلب بعد ذلك تهيئة الأوضاع الداخلية بما يساعد على بقاء العائدين وديمومة مقومات الحياة لديهم بعد العودة. وهي مسألة تعتبرها كاتبة التقرير جزءًا جوهريًّا من متطلبات مستقبل العراق ككل.

أما الشق الثاني، فتلعب الأمم المتحدة والمنظمات الدولية دورًا مهمًّا فيه، خاصة البنك الدولي والبرنامج الإنمائي، حيث يمكنهما توفير دعم مالي، إضافة إلى برامج وخطط تأهيل ودمج غير العائدين، في البلدان المقيمين فيها. ويرى التقرير أنه على الدول المضيفة للاجئين العراقيين، الاستجابة بشكل متوازٍ لقبول استمرار مَن لا يريد أو لا يستطيع العودة منهم، وكذلك قبول إعادة توطين بعضهم في دولة ثالثة. ومنحهم حق الإقامة والعمل. كما يعول التقرير في جانب كبير من هذه الخطوة على الولايات المتحدة الأمريكية بأن تقبل إعادة توطين أعداد من العراقيين الموجودين على أراضيها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 22/نيسان/2009 - 25/ربيع الثاني/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م