مؤسساتنا التربوية بين هيمنة التقليد وجشع المفسدين

د. حسن المحمداوي

لايخفى على أحد بأن التربية وبما تحمله من اهداف وتطلعات وفلسفات تعد المرشد الأساس والموجه الفعال في بناء الأنسان والحضارة وبالتالي في تقدم الأمم، لذا ينصب الأهتمام البالغ وخاصة في الدول المتطورة والتي تنشد فعلاً الرقي والتقدم بهذه المؤسسات والعمل على تهيئة المناخات والأجواء المناسبة والكفيلة بأن تعطي ثماراً يافعة ومخرجات عملية وعلمية ترفد المجتمع والحياة بالطاقات البناءة والسليمة من أجل البناء والتوافق مع المعاصرة.

 وهذا في حقيقة الأمر ديدن المجتمعات المتطورة وشغلها الشاغل حيث نرى ونلمس ونحن في بلاد المهجر بأن هناك الكثير من الطاقات المادية والفلسفية والبحثية التي ترصد من أجل أنماء وتطور هذه المؤسسات وبالشكل الذي ينعكس إيجاباً على نمو وتطور وتفتح عقلية الأنسان معمر الكون والحياة وهم لايجدون بأن هذه الأموال التي تنفق من أجل انعاش وأمداد المؤسسات التربوية بما يؤهلها للمعاصرة والحداثة والأبداع هو ضياع لثروة البلد لإنهم يتطلعون بعقول نيرة ومتقدة لأهمية مخرجات هذه العملية التربوية والتي تعطي مردوداُ مضاعفاً اضعافاً كثيرة لتلك المدخلات.

 ومثل تلك هذه الأهداف الأمنظورة تكون غائبة عن المسؤلين في مؤسساتنا التربوية وأن حضرت فأنها تحضر خجولة ومنطوية على نفسها، حيث أن هذه الأهداف المنظورة في بلدان العالم المتطور يدعمها الواقع المعاش والعملي وفي بلداننا تدعمها عنتريات المتسلطين الجوفاء.

 أن مانلمسه في بلداننا المتخلفة ومؤسساتنا التربوية المنخورة بالجهل والبيروقراطية والتعصب والتقليد ومعاداة الأصالة والمعاصرة والتعكز على ماقاله بعض الأسلاف المتعجرفين لهو طامة كبرى نعزي بها أنفسنا واجيالنا الذين يسبتون تحت وطأتها وعقم فلسفتها فترى الجيل الحاضر غارق في الصراع بين مايريد وبين مايطلب منه وهذا مايدفعه بشكل ملحوظ وجلي الى أن يكون مغترباً عن نفسه ومجتمعه، وهذا النوع من الأغتراب ( Alienation )، الذي يهيمن على انماط سلوكه بحيث تستشعره من خلال الملاحظة الأوليه والبسيطة بأن لديه العجز والملل والشعور المسبق بالفشل وتلتهمه نوع من السوداوية في أفكاره وتطلعاته مع حالة من التمرد العشوائي اللاواعي وأنه غير منتمي للمكان والزمان الذي هو فيه وهذا مايجسده قول الشاعر:

وما تغربت عن اهلي وعن سكني لكن ينازعني احساس مغترب

أن مؤسساتنا التربوية هي المسؤلة بالدرجة الأولى عن نمو وهيمنة مثل هذه السلوكيات (سلوكيات الأغتراب)، لأنها مؤسسات لازالت ترضخ تحت وطئة مسؤلين المحاصصة المقيتة التي ابتلينا بها ومن الذين يحملون أيدلوجيات سقيمة قد أكل الدهر عليها وشرب، وهم من الذين يخشون من أن تضيع مناصبهم وأمتيازاتهم التي يحصلون عليها بغير وجه حق ( كما هو مجلس نوابنا ) لأنهم من الحزب الفلاني أو الفئة الفلانية وهم بالتالي يتطيرون خوفاً من منافسة الكفاءات لهم ومن الذين يحملون بالفعل وجع وأنات العراق وأهله فلذلك تراهم في عمل دؤب من أجل ابعاد هذه الطاقات الخيرة والحريصة عن طريقهم لكي تخلو الساحة لهم وبكافة الميادين ومنها التربوية من أجل البقاء على الأفكار التقليدية والمجة ولتشدقهم الخالي من العلم والموضوعية.

 وماهكذا تساق الأبل ايها المناضلون فالعراق مسؤلية الجميع وينبغي أن تستدرجوا الكفاءات من أبنائه من أجل النهوض به ومن كبواته المتلاحقة والمتعددة وهو بالتالي ليس حكراً على حزب أو فئه أو أيدلوجية معينه.

 أن الذين يخضمون مال الله ومال الفقراء خضم الأبل نبته الربيع والذين يحرمون بفسادهم الإداري الأطفال من ممارسة أبسط حقوقهم في التعلم ضمن مؤسسات تربوية تنهض بهذا الأمر ويكون لها الدور الفعال في بناء الدولة وتربية الإنسان على السلوكيات والممارسات التي تخلق منه أنساناً بمعنى الكلمة، أقول أن مثل هؤلاء وهم كثر من مخرجات أيدلوجية البعث ومن الذين ركنوا اليهم يكونوا فاقدي البصيرة والتبصر بأهمية المؤسسات التربوية فهم يريدوها مؤسسات خاوية وخالية من الفكر والبحث والأصالة والأبداع، مؤسسات لايزال المعلم فيها يجتر ماكان يجتره الملالي ومازالت العصا والعقاب البدني هو المعول عليه في بناء السلوك المطلوب، بحيث يصب هذا المعلم جم غضبه واحباطاته ومعاناته اليومية ضرباً واهانةً وحتى فشائر نابية لاتمت للعملية التربوية بصلة على هذا الطفل المسكين الذي لاحول له ولاقوه الا أن يتقبل هذه الممارسات وهو صاغر مهان، وأننا بهذا العمل المقيت نكون قد سحقنا آدمية الأنسان وتقديره لذاته وهذا ماينعكس سلباً على معطيات مخرجات العملية التربوية.

 أن الأنظمة في البلدان العربية المتخلفة ومن ضمنها بلدي لاتعير اهتماماً لهذه المؤسسات التربوية أما بقصد أو بجهل، فأن كانت بقصد فهذا يعني أن فلسفة الدولة تريد من التربية أن تعمل ضمن سياقاتها وهذا ما كان حاصلاً أيام حكم البعث الجائر لأنها فلسفات في حقيقة امرها تخشى من تطور الأنسان والأحساس بآدميتة أي انها بعبارة أخرى تخشى من أن يحقق الأنسان ذاته من خلال التربية بما يحمله هذا التحقيق للذات من مطالب لنيل الحرية والاستقلال والكفاية وعلى كافة الأصعدة والميادين وهذا بالتالي لايخدم الحكومات المتسلطة والجائرة لذا فإنها تعمل وبشكل حريص على أن تبقي هذه المؤسسات التربوية راضخة لتعاليمها ومطبقة لفلسفتها ومزمرة لمنجزاتها وانتصاراتها الكارتونية.

 وأما أذا كان عن جهل فالمصيبة اعظم بمعنى أن يكون القائمون على هذه المؤسسات من الناس الجهلة بأهمية هذه المؤسسات وجدوى عملها في المجتمع والتطور الحضاري خاصة ونحن نلمس بأن هناك العديد من المسئولين في القطاعات التربوية الذين هم ليسوا من أهل الحرفة أن صح التعبير ولكنهم متطفلين عليها وغير مكترثين بها جاءت بهم الصدفة او المحسوبية أو الانتمائية للاحزاب وما أكثرها في بلدي الجريح، بحيث تكون توجهاتهم وتطلعاتهم ليس لها أساس فعال ومجدي في العملية التربوية وذلك لان فاقد الشئ لايعطيه.

 أن مؤسساتنا التربوية في وضعها الحالي تعد طارده ومنفرة للاجيال وهي بالتالي عاجزة عن غرس روح الانتماء والحب للارض والوطن، مؤسسات تعمل على تفكيك أواصر العلاقة والارتباط بين الطالب والحياة المدرسية والتربوية حتى أننا قد نستغرب كثيراً أن نخاف على ابنائنا من أن يعلمه المجتمع المدرسي سلوكيات بذيئة قياساً بالمجتمع المحلي بحيث تكون مخرجات العملية التربوية متسمةً بالسلوكيات المجة واللااخلاقية وهذا مايعاكس المنطق تماماً وبما يدلل وبشكل واضح على ركاكة الكادر التعليمي والمؤسسات التربوية والمنهج كذلك بالاضافة الى ركاكة حتى الممتلكات المادية لهذه المؤسسات والتي يخلو بعضها من مقاعد تكفي لاعداد الطلاب في داخل الصف وان وجدت فهي رثة متهرئة تبعث على الملل والأشمئزاز أو من سبورات نظامية أو مواد للوسائل التعليمية أو حتى من ظروف أساسية لنمو العملية التربوية والتعليمية.

 هذا اذا اسثنينا الكلام عن العجب العجاب في المدارس الثلاثية والتي ماانزل الله بها من سلطان مع العلم بأن هناك الملايين من الدولارات تصرف على بعض المؤتمرات الخاوية وعلى مظاهر أعلامية تافهة أو من خلال آفة الفساد الإداري في هذه المؤسسات والرؤوس التي تعتاش على مال السحت والحرام، فليس من المعقول أيها المناضلون الجدد أن تقبضوا الآف الدولارات ثمن نضالكم الساذج وتتركوا الأطفال دون المستلزمات الأساسية لتربيتهم وتعليمهم وليس من المنطقي أن تدفعوا للصومال ملايين الدولارات بتبريرات سئمنا من سماعها وتتركوا أطفالنا يجوبون الشوارع طلباً للقمة التي تسد رمقهم وتتلقفهم حاضنات التربية الفاسدة ليكونوا وبال على انفسهم وبلدهم وعلى الإنسانية بشكل عام.

 أقول اتقوا الله في هذا البلد المعطاء وبخيراته ولاتكونوا كالذين نسوا الله فانساهم أنفسهم وأعملوا بنوايا خالصة لبناء الإنسان أولاً وترميم مشاعره وسلوكه فهو أفضل عند الله وأولي العلم من أي شئ أخر، وأقول اتقوا الله في أحباب الله وأمنوا لهم المؤسسات التربوية الصالحة والمتطورة أن أردتم فعلاً أن تنهضوا بهذا البلد بحيث تكون مخرجات هذه المؤسسات طاقات بشرية تتمتع بروح الأخاء والمودة والإنسانية والانتماء والرحمة، وهذا يكون من خلال الاعتماد على الكفاءات والخبرات المتوقدة في هذا الميدان من ذوي الأصالة والإبداع والتطوير، فالعمل الجاد الذي تضمه النوايا المخلصة يجري بعين الله وتعبد له سبل النجاح والتقدم ومادون ذلك يكون هرطقة كلامية نسأل الله ان نتطهر منها.

* أستاذ جامعي وباحث سايكلوجي

Mezban56@yahoo.se

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 21/نيسان/2009 - 24/ربيع الثاني/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م