حدث في مثل هذه الأيام عام 1980

محمد علي جواد تقي

في مثل أيام ربيعية كهذه عام 1980 حيث الطقس العراقي معتدل بشمس مشرقة بلطف، والسماء مبتسمة بزرقتها، أما الناس فكانوا ما بين طالب علمٍ في المدرسة وعامل يكدّ لتحصيل لقمة العيش وجندي يحصي أيامه الأخيرة لبلوغ فرحة التسريح ثم إكمالها ببناء العش الزوجي، وبشكل عام كان الناس في سعي حثيث لاقتطاف ما تبقى من ثمار الطفرة النفطية في أواسط السبعينات وما درّ ذلك من خير وفير على العراق وشعبه؛ في ظل هكذا أجواء كانت ثمة عوائل عراقية يتم إخراجها عنوةً من بيوتها في أكثر المدن حيوية وحراكاً اقتصادياً وهي الكاظمية وكربلاء المقدسة والنجف الأشرف ومدن أخرى وسط العراق، وذلك ليس تحت جنح الظلام وإنما في وضح النهار، وأمام مرأى ومسمع من الناس في أغلب الأحيان، ثم يُساقون الى دوائر التسفير التابعة لمديرية السفر والجنسية، وهناك يبلغون بقرار مما كان يسمى سابقاً بـ(مجلس قيادة الثورة) رقم (666) القاضي بسلبهم الجنسية العراقية وترحيلهم الى ايران.

رغم انه لا توجد إحصائية دقيقة لعدد الذين هجرهم نظام صدام الى ايران، لكن تقديرات تتجه الى ان الرقم ربما بلغ حتى عام 1982، حيث آخر وجبة من المهجرين وصلت ايران، حوالي (250) ألف مواطن عراقي، كانوا قبل قرار التهجير جزءاً طبيعياً من كيان المجتمع العراقي، فقد شمل التهجير طالب المدرسة والجامعة والكاسب الحرفي والفلاح والعامل وربت البيت، لكن مع ذلك لم يظهر أي ردّ فعلٍِ يحاكي ألم البتر الذي أقدم عليه نظام صدام لأحد أجزاء المجتمع ، والسبب هو القناعة شبه التامة التي حصل عليها النظام البائد من السواد الأعظم من الشعب العراقي بأن تهجير هؤلاء وإخراجهم من العراق، كان عملاً مبرراً وصحيحاً، بل انه جاء نتجية حتمية لما جنت أيدي هؤلاء، والدليل على ذلك، أن النظام لم يتعرض لجميع الناس، فالغالبية بخير وتمارس حياتها اليومية، إذن؛ فالذنب ذنبهم!

هذه المقولة يبدو انها تغيرت وأعيد النظر فيها، بعد أن دخل التاريخ العراقي الحديث في دورة جديدة بعد مضي حوالي ثلاثين عاماً وهو جيل كامل، وضجت وسائل الإعلام بأخبار (المهجرين)، لكن هذه المرة داخل العراق، بعد تداعيات الإطاحة بنظام صدام عام 2003 ، فلا أعتقد أن ثمة منصف يقول: بان العوائل التي هُجرت من سكناها في محافظة ديالى والعاصمة بغداد كانت مذنبة وتستحق أن تشرد وتهجر وتسكن في الخيام! وكما يقال فان التاريخ والأيام كفيلة باظهار الحقائق، لكن هذه المقولة ربما لا تكون مفيدة لأن الأخذ بها يكلفنا الكثير، الكثير من الدماء والطاقات والأضرار النفسية والمعنوية فضلاً عن المادية، وبكلمة؛ ضياع جيل كامل، فهل بات العراقيون بحاجة الى ضياع جيل كامل آخر حتى يعرفوا سبب المشكلة والأزمة القائمة أمامهم؟

لنكون متفائلين في تطلعنا للمستقبل على الأقل، ولا نقول بأننا نقضي اليوم نفس الأيام التي كنا نقضيها في الفترة التي أعقبت شهر نيسان الجميل عام 1980، لأننا اليوم بدأنا نملس بكل حواسنا عوامل عدم الاستقرار الحقيقية في هذا البلد، وفي مقدمتها التكالب على السلطة والهيمنة، وبات الجميع يتحدث باشمئزاز عن لهاث هذا وذاك على السلطة والمنصب، مسترخصاً كل الأثمان، سواء كانت في الأرواح أو في طاقات البلد الانسانية أو المادية، وهم محقون وحريٌ بنا أن نضمّ أصواتنا اليهم، لكن تبقى الحسرة والألم في نفوس أولئك المهجرين (الأوائل) لأنهم غادروا أرض العراق و(في الحلق شجا) و وجدوا أنفسهم يدفعون ثمن أمرٍ لا علاقة لهم به، وهم يتحدثون عن سطوة صدام وطموحه الجنوني في الهيمنة، لكن فيما وراء الحدود حيث المخيمات تاركين خلفهم ناسهم وأقرانهم في عالم آخر، وللعلم فقط، فان بقايا (المهجرين الأوائل) مايزالون في المخيمات هناك.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 19/نيسان/2009 - 22/ربيع الثاني/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م