
شبكة النبأ:
"حين يتحول العالم الى قوقعة بحجم الجسد" بهذه العبارة اطل
علينا العائد من الغربة القاص والروائي العراقي علي حسين عبيد ليجسد من
خلال ورقته الموسومة بتلك الكلمات تجربته الاخيرة في رحلة الابتعاد عن
الوطن.
حيث استضاف مؤخرا إتحاد الادباء والكتاب العراقيين/ فرع كربلاء في
أمسية خاصة ومميزة الروائي عبيد بمناسبة عودته من المغرب العربي بعد
رحلة مضنية امتدت لفترة سنة كاملة.
وطرح عبيد خلال ورقته التي القاها على مسامع الحضور رؤية خاصة عن
المكان والمتخيّل السردي، مستوحاة من نصه الروائي الجديد الذي حمل
عنوان (النزوح الى أوربا).
من جانبه هنّأ مقدم الامسية القاص علي لفتة سعيد الضيف لفوزه بجائزة
القصة القصيرة في مسابقة مركز النور.
وقال لفته:" ان خيال علي حسين عبيد فعل ما بوسعه لكي يخدعنا فيتماهى
مع الواقع لتختلط علينا الحدود بين الاثنين (الحقيقة والخيال)".
بعد ذلك قرأ الضيف ورقته التي حملت عنوان (حين يتحول العالم الى
قوقعة بحجم الجسد) وقد جاء فيها:
"ما هو المكان وما العلاقة بينه وبين الخيال؟!. لقد بنيت في -مخيلتي
الشخصية- التي قادتني الى المحيط الاطلسي، أمكنة لها مذاق الغريب
المتجدد ودهشة الممنوع وحلاوته، في وقت ضاق بي بيتي، ووطني، بل ضاق بي
حتى جسدي فعشت وكأنني مهدد بالموت في أية لحظة قادمة.
كلكم تعرضتم لخطر الموت في لحظة ما، وكلكم عاش ذلك الشعور الغريب
المخيف المفزع، لكنه كان يزول عنكم عندما تنتفي أسبابه، نعم تعرضتم
لخطر الموت في لحظة او ساعة او يوم ما، لكنه انتهى وعدتم الى رحبة
الحياة، أما الموت الذي دهمني، فلا أستطيع تحديد شكلهِ او لونه او حتى
أسبابه، وظل يضيّق الخناق حول عنقي، فضاق بي وطني ثم بيتي ثم جسدي، ويا
للكارثة، فغالبا ما تكون ثمة بدائل تقدمها لك حدائق الخديعة والبهتان،
تلك الجنان المضيئة، حدائق الضوء التي يبنيها الخيال في قلب الظلام.
وهكذا طرت الى حدائق الضوء -التي هندستها وبنتها مخيلتي كأمكنة
إسطورية لامناص من الوصول إليها بأجنحة الحقيقة والخيال معا- عبر صفقة
هروبٍ لا تقبل الخطأ، وهذه هي المفارقة، إذ كيف يمكن لك أن ترسم مدنا
وشوارع وعوالم وحدائق في بيت الخيال وتصدقها وتحث ذاتك للعبور إليها،
في صفقة واقعية ليس لها من الخيال نصيب !!.
لقد عشت أحلاما ليس لها مثيلا، وعشت أمكنة لا وجود لها إلاّ مع آلهة
المعابد، ومع ذلك صدقتها، وسأعترف لكم بأن خيالي هو الوحيد الذي أقنعني
بوجودها هناك على شواطئ الأطلسي -قبل أن أراه- وبين حياض الحسان وآفاق
الحياة المجنونة، تلك التي لا تحدها أنفاس ولا تكبلها أجساد، أو أية
حدود من أي نوع كان، ومع أنني كنت ألمس رائحةَ الخديعةِ لمس اليد، لكن
خيالي كان يضحك مني وغالبا ماكان يصفني بالجبن، -وأنا روح لا تعرف
الحذر- فأستشيط غضبا وأهجم على خيالي وألكمه ألكمه حتى البكاء، وحينها
كنت أنتهي مرغما الى صداقته والقبول بنصائحه، بل بأوامره التي لم تكن
تسمح قط بالتراجع او التردد، فجنائن الشمال كانت تلوِّح لي كما لو أنني
أرى إبني هناك -إبني الذي كانت الدنيا بأثقالها لاتساوي قطرةً من دموعه
المقدسة- لكنه ياما بكى حين وصلت الجنائن ولم أجده بين أزهارها، ورحتُ
ألهو عند المحيط في حدائق الضوء مع الحسان وفي الجنان راسما أمكنتي
المخادعة وقابلا بخديعتها بابتهاج عجيب لم أعشه طيلة نصف قرن من
السنوات هو عمري الذي مضى".
وجاء في ورقة القاص عبيد أيضا:
"وحين وصلنا قارب القفزة الأخيرة دخلنا جوفه، وسرعان ما تشكَّلَ
المكان في قوقعة تعزلك عن العالم، وتمنع عنك الشمس والهواء النقي وتضخ
عليك روائح السمك الميت وشباك الصيد الممتلئة ببقايا الطحلب والاشنات
ورائحة –الزفر- التي قاتلتها ببسالة لم أعهدها بنفسي، وكأنني أخوض
صراعا متجذرا ضد الموت، لقد أغمضت عينيَّ في تلك اللحظات وتذكرت قولا
لجاستون باشلار يقول فيه: (الحق إن الروح تمتلك ضوءاً داخليا، وهو
الضوء الذي تعرفه البصيرة الداخلية وتعبِّر عنه بعالم من الألوان
الرائعة.. إنه عالم ضوء الشمس)".
ثم خُتمت هذه الورقة بقول القاص علي حسين عبيد:
"عند ذاك فقط ولأول مرة منذ زمن بعيد أغمضتُ عينيَّ بصورة جدية
وحاولت أن أستمع لصوتي الداخلي، كي أقرأ الأمكنة كما يجب وأجادل
الأخيلة كما يجادلها الآخرون.
فعدتُ من حيث طرت بأجنحة الخيال وعرفت أن الموت الذي ضيّق الخناق
حول عنقي هو نوعٌ من الطيش الذي لابد منه ونوع من الجنون الذي يحتاجه
المنظَمون أبدا، فمن دونه ستموت الأمكنة في ذواتنا ومن غيره ستضمحل
المخيلة فتسلمنا الى ملكوت الموت قبل الأوان".
وأثارت هذه الورقة الكثير من الأسئلة لدى الحضور الذين غصّت بهم
قاعة الاتحاد على غير العادة، فيما ساهم في المناقشة والتعليق عدد من
الادباء منهم "ناظم السعود، دمحمد عبد فيحان، علي النواب، عقيل أبو
غريب، كاظم السعدي، علي الخباز، ميثم العتابي، عصام حاكم، وعباس خلف
علي وغيرهم".
بعد ذلك أجاب الضيف عن بعض التساؤلات وأكد على أهمية الاستفادة
القصوى من ملكة الخيال، وفرّق بين العقل المنظّم والعقل المحلق، وقال
على من لايجيد التعامل مع خياله او لا يمتلك سمات الخيال المتفرد أن
يتفرغ لبيته وحياته العائلية ويترك عظمة الخيال لأصحاب العقول المحلقة.
وقد لوحظ حضورا مكثفا لوسائل الاعلام ومنها قناة العراقية الفضائية
وقناة بلادي وقناة الفيحاء وقناة الحرية، واذاعة كربلاء، وشبكة النبأ،
وجريدة إعمار كربلاء، وجريدة الاعلام العراقي وصدى الروضتين وجريدة
الوطني وجريدة الخطوة ومجلة شعوب وجريدة الرأي، وقد تم تغطية هذه
الامسية بطريقة متميزة، وقال العديد من الادباء والمثقفين لوسائل
الاعلام بأهمية الاحتفاء بالمبدعين وجعل هذا التقليد متواصلا وحيا لدعم
الابدع والمبدعين العراقيين بصورة متواصلة. |