الاصطفافات الجديدة والنخب المرشحة للحكم

نبيل ياسين

لكي ندرك حقا طبيعة الواقع السياسي , لابد من القاء نظرة على الاصطفافات والجماعات والنخب التي يمكن ان تلعب دورا اساسيا في الحكم في العراق.

عاش العراق في ظل ظاهرتين قاسيتين: الاولى هي غياب القانون والتعويض عنه بقانون الحزب  الذي يحكم الاطار الحقوقي للمجتمع بما في ذلك نظام العقوبات. وحزب البعث جسد هذه الظاهرة بشكل تام. لكن هذه الظاهرة المستمدة من(الشرعية الثورية) شملت احزابا ومؤسسات سياسية اخرى، بل شملت العقل السياسي العراقي  الذي يظهر في تجليات مختلفة في السلطة والبرلمان والمجتمع المدني.

اما الظاهرة الثانية فهي تعود النخب السياسية من خلال احزابها على الغاء الاخر  سياسيا وعقائديا وجسديا  في الحكم  والانفراد بالحكم وعدم الايمان بالمشاركة والمساواة والحقوق والحريات العامة. وتظهر تصريحات كثير من السياسيين في الحكم والبرلمان لتشير الى استمرار هذه الظاهرة التي تؤشر الى تسييس كثير من الظواهر مثل العنف والفساد وتسييس القانون والمصالحة بعيدا عن هيبة الدولة وسلطة القضاء.

هاتان الظاهرتان تقودان  الى عدم احترام المعايير والقيم التي تتصف بها النخب عادة من معايير النزاهة والعدالة وحقوق الانسان والحريات وسيادة القانون والمسؤولية الاخلاقية للسلطة تجاه الدولة ومؤسساتها , وتجاه المواطن والمجتمع.

وخلال نصف قرن كانت (الثورة) فوق الدولة. وكانت العقيدة الايديولوجية فوق الدستور والقانون.،وكانت الثروة ثروة الحزب والحاكم وليست الموازنة العامة والدخل القومي. اي ان الشفافية والنزاهة والمسؤولية تجاه المال العام ماتزال ثقافة غير مكرسة واقعيا , رغم مطالبة الشعب والرأي العام بها.

 يواجه العراق عهدا جديدا يمكن ان يكون ,حقيقة لا جدلا , عهدا ديمقراطيا تتحقق فيه سيادة القانون والدستور وسيادة البرلمان وقيم الديمقراطية. وهي القيم التي كانت الاحزاب الحالية تبشر بها وتستند عليها لمعارضة حكم صدام.

وقد حقق العراق خلال السنوات الخمس الماضية الديمقراطية الانتخابية خلال عمليتي انتخابات عامة وعمليتي انتخابات محلية. ويبقى ان تتحقق الديمقراطية الليبرالية كاملة بما فيها من انجازلت سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وقانونية. وهذه الفرصة بيد النخب العراقية حينما نقول بشكل غير مباشر انها بيد الشعب. فمن هي هذه النخب وماهي قدراتها ومعاييرها ومواصفاتها؟

النخبة ,عادة ,هي نخبة سياسية وثقافية وتكنوقراطية تنتج عن خض وحراك في محيطها لتمثل في النهاية  قمة الهرم الذي  تنتمي اليه. وقد دخلت الى تقسيم النخب العراقية , وفق التقسيم السابق, نخب جديدة هي النخب العشائرية والنخب الدينية  الممثلة للمذاهب والطوائف.

فالعراق  في تاريخه السياسي الحديث شهد توزيع الوحدات السياسية العراقية على الوحدات الاجتماعية التي تشكل التكوين الاجتماعي البشري  داخل الاطار الجغرافي الذي يمثل حدود العراق.وكانت الوحدة الاجتماعية للفرد هي العشيرة ممثلة بالعلاقة مع الملك العقاري الرئيسي ,وهوالارض والانتاج الزراعي الذي شكل الهوية التي توصف بها العشيرة كونها ريفية او بدوية. ومن يقرأ تقرير الاستخبارات البريطانية الموضوع عام 1920 عن العشائر العراقية , والمطبوع في بغداد في خريف 1958 , سيجد معيارين اعتمدهما التقرير هما المهنة الاساسية للقبيلة , وعدد اعضائها.وبالمتاسبة فان هذا التقرير مهم تاريخيا للتعرف على الواقع الديموغرافي العراقي.

 لكن هذا الواقع يعود الى قرن شهد العراق خلاله رغم التحولات الدامية نهوض واخفاق نخب وقوى وتشكيلات ومركبات سياسية واقتصادية وفكرية وعلمية واجتماعية جديدة شكلت بمجموعها طبقة وسطى ساهمت ببناء الدولة وتحديد اطر المجتمع العراقي في عهود مختلفة خاصة في العهد الملكي(1921-1958) والعهد الجمهوري الاول (1958-1963).اما النخب الدينية الجديدة فهي وليدة نفس التحولات التي افرزت الطبقة الوسطى وملحقاتها من قيم وامكانيات.

وخلال الحرب العالمية الاولى ومابعدها برز دور (المرجعية الدينية) على صعيد العلاقة بين الجمهور والحكم. فاخذت المرجعية نظهر بمظهر يرسم المواقف والسياسات العشائرية تجاه السلطة باعتبارها الاب الروحي  لعشائرالوسط والجنوب وبعض عشائر الشمال التي ترجع الى فتواها وتوجيهاتها بشان العلاقة مع الحكم.

تبدو ,اذن,  كل من العشيرة والمرجعية وحدات غير سياسية بعد ان توزعت عناصرها البشرية على وحدات سياسية هي الاحزاب.بيد ان نظام صدام حسين عمل ,منذ الحرب العراقية الايرانية ,على  توظيف العشيرة في العمل السياسي والدعائي  عبر زجها  في عملية الدعم العشائري المزعوم للقيادة وللحرب , بحيث اضطر لمواجهة من يرفض , الى تصنيع مشايخ بديلة تكون  اداة  للسيطرة على مئات الالاف من الجنود الذين ينتمون للعشائر.وفك العلاقة بين العشيرة والمرجعية الدينية, خاصة بعد انتفاضة 1991.  

بعد سقوط نظام صدام استعادت العشيرة دورها بشكل أخر , واصبحت في واجهة المشهد السياسي الجديد. بل ان المشهد السياسي  بدا وكان  العشائر هي  النخبة السياسية القائدة في العراق الجديد، وهي خطوة سدت فراغا اجتماعيا في قاعدة العملية السياسية الجديدة. هذا الفراغ الناشئ عن  غياب الحياة السياسية في العراق طوال العقود الثلاثة لحكم صدام بسبب القمع وغياب الحريات وحكم الحزب الواحد.

 صحيح ان النخب المعارضة لحكم صدام المخلوع تتكون من خليط من السياسيين المحترفين ,ومن الايديولوجيين العقائديين من شتى التيارات، ومن منشقي حزب البعث المدنيين والعسكريين ومن المستقلين، وان هذا الخليط استطاع ان يبرز الى الوجود مؤتمر لندن في نهاية 2002،  الا ان قاعدته الواسعة كانت ماتزال داخل العراق مغيبة ومقهورة.

لذلك  كانت المفاجئات  كثيرة بعد سقوط خمسة وثلاثين عاما من القمع  السياسي والقومي والديني والثقافي , ومن تلك المفاجئات, بالنسبة لبعض المراقبين الدوليين ولبعض الاحزاب السياسية, نهوض الشارع العراقي بشكل ديني غير متوقع استعصى على التفسير الطبيعيللوهلة الاولى,  واحتوته التفسيرات السياسية المباشرة كونه خطرا يتمثل بدولة دينية ربما تكون على النمط الايراني.

هنا اصبحت العشيرة مؤهلة نظريا لتولي القوة على المجتمع عبر ضبط الفرد من خلال اطاره العشائري. غير ان العراق الحديث ليس عشائريا معزولا عن تفاعل العشيرة مع خروج النخب السياسية الحزبية والمستقلة من رحمها..وظهر المشهد العراقي بعد سقوط صدام في مؤتمري الناصرية وبغداد في صورتين: رجل العشيرة في عقاله وكوفيته ورجل الدين بعمامته، فيما احاط الصورتين اطار الطقوس الدينية المشاركة بين الدين والعشيرة..

هذا المشهد ظهر في الغرب , من خلال الانبهار الاعلامي, وكأنه صورة الماضي السحيق للعراق دون اية صلة بالعصر والعالم الحديث. ولما لم يكن للنخب السياسية اي تصور عن الدولة او سيادة القانون او البرلمان بعد,  ولم يكن هناك مشروع سياسي بديل عن انهيار الدولة الذي قام به نظلم صدام للتفرد بالسلطة واعتبار السلطة الحاكمة بديلا عن الدولة, ومع انهيار السلطة  بعد هروب صدام وخسارة الحرب , فقد بدا الفراغ مؤهلا للعشيرة اكثر مما هو مؤهل لاحزاب فقدت , بسبب الارهاب الرسمي, الثقل الشعبي القادر على ملأ الفراغ. وساعد على ابعاد النخب السياسية انشغالها بالسلطة الجديدة ومشكلات الواقع السياسي الجديد الذي اتجه للمشاركة السياسية والعملية الدستورية والاعتراف بالاخر مما لم يكن جزء من الثقافة السياسية التي كانت سائدة.

 كما ان العنف المسلح الذي رافق التحولات الكبرى في العراق , ساهم بعزل النخب السياسية عن صراع الحشود  الذي كان يجري في الشارع ,وصروت النخب السياسية وكانها جاءت من الخارج لتكون وصية  على الام الداخل،واتسعت الفجوة بين هذه النخب والمواطنين المحرومين من الامن والعمل ولاستقرار والدولة التي ترعى وجودهم.  

منذ سقوط النظام حتى اليوم تجري استقطابات متعددة ومتغيرة على الرغم من بقاء الاشخاص انفسهم في الواجهة. معنى ذلك ان النخب تغيب ويتم اختصارها في وجوه.وتلعب بعض هذه الوجوه دورا  في تهميش النخبة واعطاء صورة سلبية عنها. لنأخذ مثلا مفهوم الطبقة الوسطى والنخبة التي تمثلها. فهذه الطبقة تغيب في التحولات الساسية الراهنة.

 ولايمكن للديمقراطية ان تكتفي بكونها ديمقراطية انتخابية دون احداث تحولات ثقافية واجتماعية واقتصادية كبرى تحقق نقلة نوعية في بنية المجتمع وتعده  ليكون مجتمع دولة ديمقراطية بما تعنيه من امن واستقرار ورخاء وتوفير فرص عادلة للجميع.

 شكلت المعارضة السابقة صورة نخبة ورث بعض احزابها  ظواهر العقل السياسي العراقي الذي اتصف بالالغاء والتهميش وسرية العمل والعلاقات ووضع القيادة في موضع غير قابل للنقد او النقاش،واعتبار العمل السياسي حكرا عليها والعمل على منع  قوى جديدة من الظهور والمشاركة في العمل السياسي الجماعي والمشترك.كما اتصفت بعدم التفكير بالقانون او الشفافية او العدالة او حقوق المواطن وآليات الحكم الديمقراطي، فبرامجها كانت فضفاضة تقتصر على اسقاط الدكتاتورية واقامة الديمقراطية.

وهي استخدمت مختلف القطاعات المهنية لصالحها بما فيها قطاع المثقفين من بعثيين وشيوعيين ولحد ما اسلاميين ايضا، وعملت على  تحويل مفهوم المجتمع المدني الى مفهوم حزبي او حركي  تابع لها اكثر منه مفهوما مستقلا عنها، وهو ما اتضح في الوضع العراقي الحالي الخاص بوضع كثير من منظمات المجتمع المدني.

وهذه النخبة التي يمارس، معظمها، اليوم مسك مقاليد جديدة لحكم جديد تتعلم فيه كيف تستمع للرأي الاخر وتحترمه وتعتبره حقا وليس شتيمة او خيانة او تخريبا، وهي   قادرة، شأنها شأن شيوخ وابناء العشائر الذين يتعلمون الديمقراطية في العراق اليوم، على ان تتعلم الديمقراطية واحترام القانون واعتماد معايير النزاهة والشفافية  وقبول الهزيمة الاتتخابية واحترام التغير في  المزاج الانتخابي واحترام ارادة الناخبين.

يتطلب ذلك ان تعتبر نفسها مسؤولة امام الاخرين وليس نخبة  فوق الشعب. ان عيش كثير من افرادها وقواها في الديمقراطيات الغربية يمكن ان يدعم توجهاتها الديمقراطية و احترامها لحقوق الاخرين واحترام القانون في دولة مثل العراق.

ورغم ان هذه النخبة  لم تكن معتادة على ممارسة الانتخابات  والمجئ  عبر صناديق الاقتراع الا انها استجابت لنتائج الاقتراع وقبلت بقوة الرأي العام وقبول نتائج النصر او الهزيمة.  

غير هذه، هناك نخبة مستقلة  تملك حدا متوسطا من التجانس الفكري والثقافي ظلت بمنأى عن الدخول في الاحزاب والتجمعات التي شكلت النخبة السابقة، وتملك اجتهادات متعددة بعضها مثالي، وبعضها حقوقي وثقافي فيما يتعلق بالحق والواجب والنزاهة والتضحية والايثار واعتبار العمل السياسي خدمة وليس امتيازا. وهي تستشهد باستمرار بماتعتبره فضائح النخبة السابقة فيما يتعلق بالانتهازية والمال والعلاقات المتقلبة وعدم المبدأية واستخدام الذرائعية البراغماتية وانعدام الثقافة القانونية والفكرية اللازمة للقائد السياسي في بلد يتطلب العمل فيه الخدمة العامة وليس النفع الذاتي والاستيلاء على الاموال العامة وتقديم العلاقات العائلية على حق المشاركة السياسية وعدم احترام الاختصاص او التكنوقراط  وحب الاستيلاء والسيطرة على السلطة باسلوب ميكافيللي دون ادنى اعتبار لحقوق الاخرين وحريتهم وكرامتهم.

تسود في هذه النخبة اتجاهات سياسية ثقافية وفكرية مثالية اكثر منها براغماتية. وهي تضع الماضي السياسي للسلطة في العراق امام الجميع كمثل يجب تجنبه وعدم الوقوع في فخاخه واعادته باسم الديمقراطية.

توقفت هذه النخبة طويلا امام المثل والمبادئ، كما توقفت طويلا امام مشروعية الحروب والتعامل مع الدول، وبالذات مع الولايات المتحدة، واتخذت مواقف صارمة ازاء النظام الدكتاتوري  وايديولوجيته الانقلابية التي لا تعير الحريات والحقوق ادنى اعتبار, وينظرون الى المصالحة الوطنية باعتبارها جزء حيويا  من العدالة الانتقالية التي تضمن الامن والاستقرار على اسس عادلة واخلاقية.

وشكل موضوع النزاهة والحس العام والمسؤولية الاخلاقية في العمل السياسي والتسامح ودولة المؤسسات والخدمات والعدالة  موقفا يكاد يكون صارما في تعاملها جعلها تضع فجوات بينها وبين النخبة الاولى التي لم تؤسس لثقافة تسامح او مصالحة مبنية على الاولويات والاحقيات التي تتناسب مع تضحيات النخبة الثانية.

النخبة الثالثة"،هي تحالف المرجعية الدينية  مع تيارات دينية فقهية وسياسية وعشائرية. وهي نخبة تتقدم  المشهد السياسي لكنها ليست بالضرورة ستظل في صميمه، لكنها قادرة على التأثير فيه.

ان الدور التاريخي للمرجعية الدينية يستعيد نفسه في الازمات السياسية على وجه الدقة اكثر مما يستعيد نفسه في حالات الاستقرار والتواصل. انه على جانب من (الثورية) التي تقتضيها الانعطافات والتحولات الكبرى. وهذه الثورية ليست بالضرورة عنفا، وانما امكانية على التدخل بسير الاحداث اذا اقتضى الامر، خاصة في المراحل التي يمكن لمناخ شبه ديمقراطي يحفظ موقف المرجعية من اراقة دماء اتباعها. وقد اتضح ذلك في الفتاوى  التي اعقبت الحرب والتي كانت عاملا مساعدا على عدم انفلات الامور، وهي فتاوى    ذات طابع سياسي وحقوقي خاصة فيما يتعلق بعدم احقية المواطنين بانزال العقاب بالبعثيين او الاستيلاء على ممتلكاتهم او  القاء القبض عليهم من قبل الافراد غير المخولين قانونيا.

ذلك يعني ان مثل هذه النخبة قادرة على الدخول في مشروع وطني واسع مع القوى السياسية المدنية والدينية لبناء عراق دستوري  برلماني تعددي وتداولي موحد.

النخبة الرابعة، هي نخبة النظام السابق.انها محكومة، عدى عن بعض انتهازييها ومتسلقيها الذين انظموا الى النظام الجديد بشتى الطرق والادعاءات، بالقدرة على تحقيق المصالحة الوطنية القائمة على عنصرين، الاول، قدرة النخب الثلاث السابقة على ممارسة التسامح والترفع عن العقاب واعادة بناء  النسيج الاجتماعي من جديد، والثاني، قدرة هذه النخبة على محاكمة ماضيها بنفسها والخروج منه الى فضاء  المواطنة الجديدة والمشاركة مع الاخرين في بناء المستقبل الجديد على الاسس المقررة من الجميع. اي الالتزام بمايقرره العراقيون وفق ارادتهم.

ان التفاعل بين جميع هذه النخب يتطلب حوارا وطنيا واسعا عن حقوق الجميع وواجباتهم ومواقعهم في العراق الجديد دولة ومجتمعا.فالدولة والمجتمع ليستا شيئا تداوليا.اما السلطة فان الصراع عليها ينبغي ان يقوده سلميا الدستور القادم والمؤسسات المرتبطة به.قد تفوز بها نخبة من دون النخب الاخرى، وقد يشهد التطور القادم تغيرا في حجم وتأثير وموقع هذه النخبة او تلك. لكن ماهو اهم ان تشرع هذه النخب بالعمل سوية في بناء الدولة والمجتمع قبل ان تختلف على من يفوز بالسلطة.

www.aqlany.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 15/نيسان/2009 - 18/ربيع الثاني/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م