قراءة في أطوار النقد الادبي

ضمد كاظم وسمي

أن المفاهيم الرئيسية – للنقد – التقويمي والعلمي والتاريخي والأنطباعي و ((الإبداعي)) – قد شهدت تصعيداً للصراع بينها في القرن العشرين.. فضلاً عن إضافة بعض الأفكار والبواعث الجديدة.. ونوهض التنظير وروج لوجهة نظر تجريبية كما في إنكلترا حيث شكك ت. س. أليوت بالجماليات.. وشبه غالبية النقد بالشاعر ((الذي يحاول دائماً الدفاع عن نوع الشعر الذي يكتبه)).. وحدد وظيفة النقد بأنها ((توضيح الأعمال الفنية وتصحيح الذوق)).. ورفض النقد التفسيري والتقويمي..

 فيما تطلع منافسه ((ريتشاردز)) الى أن يصبح النقد علماً:((علينا أن نبحث عن طريق تؤدي الى أن تخضع ((القيمة)) دون تحفظ لرعاية العلم)).. وقد تأثر بهما ف. ر. ليفيز فالنقد عنده أنما يدرب ((العقل والإحساس معاً، فينتج حساً مرهفاً ودقة في الاستجابة وعقلاً شفاف النقاء))..

 وأكد جورج داتسون بأن النقد الوصفي هو ((النقد الوحيد الذي يتمتع بحياة وقوة خاصة في الوقت الحاضر)).. جاء ذلك في مقالته ((النقاد الأدبيون)) في عام 1962.. وفي ظل هذه التجريبية المغالية جاء كتاب هارولد اوسبورن ((الجماليات والنقد)).. حيث أن النقد بالنسبة له هو جماليات تطبيقية.

وفي مطلع القرن العشرين أصبح معظم النقد في الولايات المتحدة الأمريكية نقداً اجتماعياً.. فقد دأب جون كرورانسوم على القول بضرورة انطلاق الأدب من نظرية وجماليات في كتابه ((النقد الجديد)) والذي ساق نقداً لاذعاً لكل من أليوت وريتشاردز فيما بدا تحالفه مع كروتشه وبيرغسون واضحاً. ووصم ايفور وينترز بالدوغماتية.. متمثلاً ذلك في قوله: (ما لم ينجح النقد في توفير نظام عملي للتقويم، فهو لايساوي شيئاً).

فيما هم كينيث برك الى توسيع مجال النقد خارج نطاق الأدب.. فقد سعى (الى نظام يجمع النقد الأدبي بالتحليل النفسي والماركسية وعلم دلالات الألفاظ..

وحاول استيعاب النقد الأدبي ضمن أطار فلسفة البواعث التي أطلق عليها اسم الدرامية) فالناقد وفقاً لبيرك، نبي معني بإعادة صنع المجتمع والحياة.. وأقر ر. ب بلاكمور بأن النقد ليس علماً، لأن العلم ((لايستطيع شرح شعور أو وجود قصيدة ما)).

أما النقاد الجدد فقد تبنوا مفاهيم نقدية اجتماعية بشكل عام.. حيث عني ليونيل تريلينغ بالقضايا الأخلاقية والسياسية في الأدب الحديث.. واعتبرت جماعة شيكاغو الأرسطوية النقد بأنه فرع فلسفي.. وأتسمت بالثقة المطلقة بمبادئها.

وجرد نورثروب فراي النقد من أية قيمة حكمية، لأن النقد ((يجب أن يفصح عن تقدم مطرد نحو عالمية لاتعرف التمييز)).. فالنقد وفقاً لفراي.. يعيد صياغة الصلة بين المعرفة والناس، وبين العلم والفن، وبين المفهوم والاسطورة، وبذلك يتحول النقد الى نظام شامل.

 يمكن القول ان عدة محاولات اخيراً قد جرت للقضاء على المفهوم التقليدي للنقد – التشخيص والتفسير والتقويم – اولى المحاولات تلك جاءت من النقاد الذين يرون بأن النقد لايخدم الادب.. ويعمدون الى تهميش النص وتهشيمه ورفع النقد الى مرتبة (المبدع غير الملزم بنص معين).. من هنا ادعى هارولد بلوم ((ليس هناك مايمكن تسميته تفسيراًًً، هناك فقط سوء تفسير، ولذلك فأن النقد بمجمله هو نثر شعري)) أما سوزان سونتاج فقد رفضت التفسير، ودعت الى ((الشهوة الفنية)).

كما دعا إيهاب حسن الى (ما فوق – ما وراء – النقد.. وضرورة استبدال النقد التقليدي بنظرية – اللااستمرارية اللاهية – التي تقود الى ((غنوصية)) جديدة، فالفرضية الأساسية هي اللاعقلانية الرؤيوية والطموح الشخصي لكي يتحول (الناقد) الى نبي، او على الأقل، الى نوع من الشاعر المتحرر من القيود التي يفرضها نظام الأدب، الماضي والحاضر).. أما المحاولة الثانية.. فقد تبنت نظرية علم دلالات الألفاظ التي تعتبر الإنسان إنما يعيش في ((سجن اللغة)).. حيث لاعلاقة بين العلامة والشكل، وبين اللغة والواقع لذلك دعت الى أن نغدق المعنى على نص ليس له معنى بحد ذاته.. ودعت الى تعدد التفسيرات حتى تغطي عدد المتلقين الى درجة إلغاء التفسير او الوصول الى اللامعنى..

((وقد أعترف البعض ممن وقعوا تحت تأثير جاك دريدا بحتمية نتائج هذا الأتجاه والمتمثلة في التشكك والنسبية والنهلستية وأنتهاء النقد والمعرفة)).. أن هاتين المحاولتين تصلان الى نفس النتيجة على صعيد الممارسة.. لأن الأخيلة في النقد يطلق عنانها.. لانتقاء أي غرض قصدي في العمل الفني وفق هذين الاتجاهين.

كانت التوجهات اللاعقلانية هي السائدة بشكل عام في فرنسا خلال أوائل القرن العشرين.. (فقد أصبح بيرغسون الفيلسوف الملهم لنظرية النقد التي طرحها البرت ثيبو ديت (1874 – 1936) والذي كان أكثر الفرنسيين عطاء في مجال النقد).. حيث أتبع ثيبو ديت منهجاً حدسياً ومجازياً في النقد.. يترجم التصورات الشعرية الى صيغ فكرية ليتسامى الملموس الى مجرد.

يمكن القول أن الحرب العالمية الثانية قد جلبت ردة فعل ضد النظريات القائلة بالفن النقي والنقد النقي.. تجسدت ردة الفعل هذه في كتاب جان بول سارتر ((ماهو الأدب ؟)) الصادر في عام 1947. فقد تضمن مفهوماً للنقد الملتزم بالقضايا الأجتماعية والسياسية، حيث هاجم سارتر النقاد الأكاديميين لأنهم ((أختاروا أن يقيموا الصلات مع الأشياء الميتة فقط)). وماهى بين النقد النقي والنقد الفارغ.. وآمن بول فاليري (بنظرية نقدية تتيح المجال للفصل التام بين العمل الفني والقارﺉ أو الناقد).. ووصف العمل الفني باللغزية ونفى أي معنى محدد.. ((ليس هناك معنى صحيح لأي نص. ولايملك المؤلف أية سلطة آمرة)).. لذلك فأن للناقد كامل الحرية في – قراءة النص – وفق ما ينتجه عقله الخاص..

وفيما يتعلق بتجلي صراع المفاهيم النقدية فقد هاجم ريموند بيكارد تفسير بارث لراسين منطلقاً من أسس تاريخية ولغوية.. فرد رولاند بارث في كتابه ((النقد والحقيقة)) عام 1966.. ووصم النقد التاريخي التقليدي بالقصور لعدم استجابته لتغيير الحياة وتبلده أزاء الألغازية والرمزية.. ويرى أن (يقوم الناقد بتحويل العمل الفني على نحو يطابق صورته الخاصة).. ودعا جورج بوليت الى ((التماثل)) مع ((المؤلف))، الى ((الأنتقال الموقعي التام لعالم ذهني ما الى داخل عقل آخر)).. وعدّ جان روسيه أن هدف النقد هو ((المشاركة في وجود كيان روحي آخر)).

أن الرفض الأكثر جذرية للنقد التقليدي قد مورس على يد جاك دريدا الذي هو في الدرجة الأساس فيلسوف لغة (نحوي / حول علم اللغة 1967).. (فأنكر أن يكون للنص أية هوية مستقرة، أو أي مصدراً أو غاية. فالكلمة والشيء والفكر لايمكن أن تلتقي معاً. والمعرفة هي لهو حر بالمصطلحات ومشتقاتها. هكذا تلتقي بواعث نيتشيه وفرويد وهايدريغر مع بعض ملامح الدادائية فتنتج تشككية تامة. بل وأقراراً ذاتياً بالنهلستية. لم يعد للنقد في مفهومه التقليدي وجود).

وفي ايطاليا دافع كروتشه عن فكرة كون النقد هو عملية تماثل عندما قال: ((إذا ما تغلغلت في صميم معنى نشيد من أناشيد دانتي، فأنني أصبح دانتي)) كما طالب بنقد لايتعدى ((التعرف على العاطفة الحقيقية للشاعر في شكلها الذي ترجمها اليه)).. وحصر وظيفة الناقد في مواجهة مهمة الشخصنة وإصدار حكم للتمييز بين الفن واللافن.. وأخيراً شاع النقد الوجودي والبنيوي الفرنسيين ليترك بصماته على النقد الأدبي في إيطاليا.

أتجه النقد في أوائل القرن العشرين في ألمانيا الى الجوانب التأملية الفلسفية (تحت تأثير ((روح التأريخ))). حيث دعى الفريد كير الى (تفوق النقد على الخلق.. الى اعتبار النقد نوعاً من الشعر).

فيما أعتبر الأكادميون النقد علماً بخلاف أرنست روبرت كورتيوس الذي رأى النقد بأنه: ((شكل أدبي موضوعه الأدب)).. وطرح ولتر بنجامين مفهوماً نقدياً له صلة بالظواهرية وبفكر هايديغر حيث قال بأن النقد هو عملية ((البحث عن أخوات العمل الفني اللواتي لابد من العثور عليه في مجال الفلسفة)) وكان يرى بأن الجمال هو أبن الحقيقة.. وقد استقطبت اطروحات هانز روبرت وولفغانغ أيسر حول ((جماليات وتاريخ التلقي)) أهتماماً واسعاً حين جرى التركيز على القارﺉ والقارﺉ المفترض / الجمهور المفترض في الأعمال ذاتها.. تحت ذريعة إمكانية إعادة تكوينه بثقة ما – إعادة تكوين القارﺉ - وأنتهيا الى القول بالقراءات غير المتناهية والمتساوية في الأهمية.

أما في روسيا فقد قال بوشكين: ((لانملك نقداً.. ليس لدينا تعليق واحد أو حتى كتاب نقدي واحد)) وذلك عام 1825..

 ومع ظهور فيساريون بليينسكي ((الذي احتل الساحة النقدية الروسية على مدى القرن التاسع عشر)) حيث عرف عملية النقد بأنها (أشبه بالبحث وأكتشاف القوانين العامة للإدراك في الخصوصيات). وأعتبر النقد الروسي أبان تلك الفترة نقداً آيدلويوجياً وأجتماعياً.. أما المفاهيم الأنطباعية والجمالية فلم تظهر الا في نهاية القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين.. في حين رفض الشكليون الروس النقد بشكل عام.. ثم حل النقد الماركسي (وهو نقد وعظي في صيغته الرسمية. فوظيفة النقد هي غرس الشيوعية).

أستعرضنا مفاهيم النقد عبر حقب التاريخ المختلفة.. مع تركيز شديد على القرنين الأخيرين.. وقد تبين بأن النقد هو بالضرورة مفهوم متنازع عليه.. وتعددت تعاريفه محملة بمضامين مختلفة.. انتهت الى أهداف متباينة.. في اكثر من بلد، بيد أن الموضوعات المدرجة ليست بعيدة عن التصنيف والتحديد.. (فالصراع بين المقاييس الموضوعية والمقاييس الذاتية هو الصراع الأساسي).. أي بين المطلق والنسبي بحيث يكتسب بعداً تاريخياً.. لتظل أشكال النقد تصطرع بكل اتجاهاتها – التاريخية والعلمية والذاتية والتقويمية الحكمية.

* فصل من كتاب اسرار المواهب

دراسات في النقد الادبي

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 7/نيسان/2009 - 10/ربيع الثاني/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م