قرابين من اجل الديمقراطية: الصحفيون

نبيل ياسين

تاريخ الديمقراطية والحقوق المدنية وتاريخ الصحافة الحرة مرتبطان , حتى يبدوان في الواقع تاريخا واحدا مشتركا في مصائره اهدافه.كنت افكر بدور الصحافيين العراقيين في بناء نظام ديمقراطي حين اتضح من التجربة ان الخوف من التضحية, خاصة لدى الصحفيين, يعزز الدكتاتورية ويكرس الفساد ويقوي شوكة اجهزة الامن لقمع حرية التعبير.

ليست هذه دعوة للموت او المغامرة من اجل الموت. لكن تسمية (مهنة المتاعب) تصبح اقل تاثيرا ومأساوية اذا قمنا بتسمية الصحافة في مناطق الحروب بـ(مهنة الموت). ولكن ليس مناطق الحروب وحدها مايجعل الصحافة مهنة الموت. فالانظمة الدكتاتورتورية هي وجه آخر من مناطق الحرب. لنذكر انه في عام 1990 مثلا كان الضحايا من الصحفيين الذين سقطوا دفاعا عن الحقيقة في بلدان مختلفة كالتالي: قتل 73 صحفيا اثناء تأدية عملهم , واختطف 16 صحفيا , واعتقل 145 صحفيا في 45 دولة لاسباب تتعلق بعملهم للبحث عن الحقيقة, واصيب بجراح 41 صحفيا, وتعرض 82 صحفيا لاعتداءات, وتلقى 50 صحفيا تهديدات بالقتل ,وتعرض 170 صحفيا لملاحقات ومضايقات مستمرة, وطرد 31 صحفيا من عمله. واوقفت عن العمل 50 صحيفة باوامر حكومية, ونسفت واحرقت 12 صحيفة وتم احتلال 30 صحيفة. وقد احصى تقرير ( فريدوم هاوس) في عام 1990 وحده 834 اعتداء على الصحافة في 91 بلدا وهو رقم اقل من عام 1989 اذ كان الرقم قد وصل الى 1164 اعتداء.

انه يبدو معدلا اقل من معدل الجنود الامريكيين الذين قتلوا في العراق خلال اربعة اعوام وقد تجاوز 4000 قتيلا. الصحافة اذن في العالم كله ساحة حرب حقيقية وميدان قتال يومي.

طبعا هذا مايتم التبليغ عنه والوصول اليه. وبالطبع لم يمكن الوصول إلى العراق تحت حكم دكتاتورية صدام لاحصاء الاعتداء على الصحفيين الذي كان يصلنا ونحن في الخارج منفيون , لكن الصحافة لم تكن حرة ومستقلة. ومع انها كانت حزبية ملحقة بالحزب الحاكم ورسمية ممثلة باجهزة السلطة, الا ان التضحيات كانت كبيرة وغالبها كان يعتمد على الحطأ غير المقصود او سوء التقدير او سوء التوقيت.

 لعبت الصحافة دورا في بلدان عديدة مثل الارجنتين وتشيلي ونيجيريا والفليبين دورا قربانيا من اجل الديمقراطية.

(كانت ايميلدا زوجة الدكتاتور الفلبيني ماركوس قد اقامت حفلة استقبال قبل انتخابات الجمعية الوطنية دعت اليها روؤسات تحرير 24 صحيفة.في نهاية الحفل وقفت السيدة الاولى في غرفة منفصلة.كان كل رئيس تحرير يدخل الغرفة تسلمه السيدة مغلفا فيه توجيهات مع مبلغ يتراوح مابين عشرين الف إلى خمسين الف بيزوس بحسب اهمية موقع الصحفي.قال البعض يبررون تصرفهم ردا على الانتقادات(العالم كله فاسد.لماذا لانستفيد من هذا الوضع؟

لكن جريدة واحدة هي فلايتاس كانت من أكثر المساهمين في اسقاط ماركوس فقد فضحت كل رشاواه وفساده المالي مع زوجته.)

هذه شهادة قدمها الصحفي الفلبيني فيليكس بوتيستا عن سنوات نضال الصحافة الفلبينية ضد الدكتاتورية.وهناك شهادة صحفي نيجيري عن صحيفة واحدة هي (مراقب الاخبار) فضحت النظام العسكري الدكتاتوري في نيجيريا وكل ذلك حصل من اجل منع الدكتاتورية من التحول إلى غول مؤبد لايمكن الخلاص منه.

كان فولتير متناقضا , لكنه كان واضحا في مايتعلق بحرية التعبير. كانت محتوى برنامجه الفلسفي الذي جعل منه شخصية تنويرية اساية في تاريخ عصر الانوار.واصبحت حرية التعبير مقدسة واعظم من بناء الميادين لالقاء خطاب الدكتاتوريين امام مئات الالوف من البشر.

ليس صدفة ان نظام صدام كان يتعامل مع الاعلام العراقي كما تعامل مع الجيش والاسلحة الفتاكة. الاثنان عقائديان وتحت رقابته واشرافه المباشرين.لكن اليوم يختلف الامر. ونحن نرى تضحيات الصحفيين الاجانب من اجل نقل الحقيقة من العراق. في الحرب قتل كثيرون. بعد الحرب اختطف عديدون.واعتقل عدد من الصحفيين العراقيين في زمن الصحافة الحرة, وكل ذلك يعني ان الرسالة الصحفية من اجل العدالة وحكم القانون ومكافحة الفساد وتثبيت الحقوق المدنية والحقوق الدستورية وتوطيد المؤسسات الديمقراطية وتوطيد استقلال السلطة القضائية وسيادة القانون يجب ان تكون رسالة قادرة على التضحية ومواجهة غول القمع وكشف مواقع الفساد وارساء تقاليد الصحافة الديمقراطية في العراق.

حتى اذا كان العالم كله فاسدا, فان صحيفة واحدة ليست فاسدة, قادرة على اداء مهمة شرف من اجل الشعب والوطن. فاذا فسدت الصحافة فان الفساد سيستشري في كل العراق ولن نجد صوتا واحدا قادرا على النطق. ان نظام صدام كمم الافواه الصحفية اولا قبل ان يعمد إلى تكميم افواه العراقيين التي لم يستطع تكميمها كلها رغم السجون والاعدامات والتنكيلات التي لم يشهدها بلد من قبل.

ان جميع التجارب, الرسمية والحزبية, تثبت ان مصادرة الراي وحرية الكلام, هي التي قادت إلى الدكتاتورية وعبادة الزعيم سواء في الدولة او السلطة او الحزب او الجماعة الصغيرة, وليس عبثا ان كثيرا من الاحزاب والمنظمات السياسية, على غرار الحكومات, تخاف من الكلمة الحرة من صحفي او شاعر او كاتب, أكثر مما تخاف من الانظمة القمعية التي فرت منها , فتحولت لقمع حرية الكلام في الخارج.

ان التضحيات الصحفية من اجل الديمقراطية شملت جميع بقاع العالم. وفي تاريخ الصحافة العربية الكثير من هذه التضحيات التي قاومت الطغيان والقمع وعلينا ان لاننسى ان قمع صوت واحد هو مقدمة اكيدة لقمع الاف الاصوات, قبل ان يقمع الشعب كله.

ان محنة العرب لم تكن بمعزل عن فساد الصحافة وفساد الصحفيين بعد ان ان اوحت الانظمة العربية بانها افسدت العالم كله, وان الذين قادوا افساد الصحافة والاعلام وقمعوا حريات الكلام لم يكونوا اقل فسادا من رؤوس الانظمة الذين افسدوا اقلام كثير من الصحفيين وخوفوهم بان العالم كله فاسد وعليهم ان يكونوا فاسدين لينجوا من الموت.

وبدون صحافة حرة, وشجاعة, ونزيهة, وديمقراطية وعادلة ومهنية وموضوعية لاتطبل ولا تكون اداة تخويف وتهديد, لن تتحقق الديمقراطية ولن تصل الحقيقة إلى المواطنين.

www.aqlany.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 2/نيسان/2009 - 5/ربيع الثاني/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م