قراءة في أطوار النقد الأدبي

ضمد كاظم وسمي

لعل في تعريفنا للنقد الأدبي لكي يشمل كافة أشكال الحديث حول الأبداع الأدبي.. ما لا يجنبنا الوقوع في محذور الضبابية.. والتي تبدو أنها ما تزال تبحث عن ضحاياها.. ما لم نجنح الى استعمال افضل لهذا المصطلح.. من خلال تصنيف ((الحديث حول الأدب)) على أسس للتمييز البراغماتي، ولكي نتعرف على هذا الحديث.. لابد من أن نعرف من نقصد به ؟

ربما يكون هذا الحديث موضوعياً يتعامل مع الناس عامة.. يتناول التأريخ الأدبي.. أو يتعامل مع الشخصية السيكولوجية للمتلقي.. أو يتفحص الطبيعة النفسية والأجتماعية للمبدع (المؤلف).. وهذا النوع من الحديث يسمى أحياناً بالحديث العلمي حول الأدب.. أو يكون الحديث تثقيفاً فنياً لمساعدة الفنان  - الأديب – لإسداء المشورة والإرشاد اليه.. وتأهيله.. إذا سنحت الفرصة لتدريبه على المهارات العامة التي تساعده في عملية خلق العمل الأدبي..

 وقد يكون الحديث تثقيفياً جمالياً وهنا يتم التوجه نحو المتلقي – القراء – من خلال التوصل الى تثمين معقول للنص.. وإبداء النصيحة لتطوير مهاراتهم التعميمية من أجل فهم الأدب والتمتع به.

أن النقد الأدبي ((يتضمن الوصف والتحليل والتفسير، إضافة الى تقويم أعمال أدبية معينة، ومناقشة مبادﺉ ونظرية وجماليات الأدب)) حيث وردت كلمة النقد في اليونانية منذ القرن الرابع (ق. م) بمعنى ((الذي يصدر حكماً على الأدب)).. وكان في القديم يناقش من قبل الفلاسفة والبلاغيين كأرسطو.. أما في العصور الوسطى.. فأن هذا المصطلح لم يكن ذا شأن.. حتى تم إحياء معناه القديم في عصر النهضة.. ومع صدور كتاب ((فن النقد)) لأيراز موس.. فقد أتسع مفهوم النقد فشمل الكتاب المقدس.. بيد أن مصطلحي (نقد) و (ناقد).. استهدفا تقديم وتصحيح النصوص القديمة بالنسبة للإنسانيين.. حيث كان هدف وواجب النقاد الوحيد كما عرفه كارل شوب (1576 – 1649) بأنه ((العمل الجاد على تحسين أعمال الكتاب باليونانية أو اللاتينية)).

وفي القرن السابع عشر طفق النقد يتحرر من الخضوع للنحو والبلاغة.. من خلال ارتباط تلك الحركة بنمو وتوسع الروح النقدية بشكل عام.. لتشمل ((الفن الأدبي)).. ثم تبع ذلك تزايد الأهتمام بالذوق والأحاسيس والمشاعر.

ولم يستقر هذا المصطلح نهائياً إلا مع صدور مقالة بوب (مقالة عن النقد) في عام 1711 م.. حيث تم تدريجياً خلال القرن الثامن عشر، توسيع مفهوم ((النقد)) ليتجاوز مفهوم النقد اللفظي للكتّاب الكلاسيك الى مشكلة الفهم والحكم.. بل ونظرية المعرفة فقد عمد ((لورد كيمس)) الى الدفاع عن الذوق النيوكلاسيكي المنطلق من الطبيعة الإنسانية.. فيما ((حصر علم النقد في أي شكل منتظم لم يتم السعي اليه قبلاً)). كما كان الدكتور جونسون يجمع بين الكلاسيكي الذي يؤمن ((بقوانين النقد الأساسية التي يمليها العقل والتراث)) والتجريبي الذي ((يعترف بأن العديد من القوانين هو قوانين مؤقتة ومحلية ولا تصمد الا أمام العادة أو المفاهيم الدارجة)).. حيث تأثر بما عرف في تأريخ النقد: الروح التاريخية المشتملة على قوة ثورية جديدة.

وأقتبس هيردر باستحسان قول ليبنيتز بأنه ((يحب معظم الأشياء التي يقرأها)) ويرى النقد على أنه ((عملية تقمص عاطفي، عملية تماثل ذاتي)) لذلك عُدَّ أول ناقد تمرد تماماً على مثال التقليد الأرسطوي المبني على نظرية عقلانية للأدب ومقاييس ثابتة للأحكام.. أما تلميذه غوتيه فقد أكد على أن ((النقد يجب أن يقتصر على نقد الجمال)) وبذلك يكون هيردر وغوتيه قد مهدا الى أنتشار النسبية النقدية ((النقد الذاتي)) الذي تجسد في تعريف أناتول فرانس للنقد على أنه ((مغامرات الروح بين الأعمال العظيمة)).

قدم أيمانوئيل كانط في كتابه ((نقد الحكم)) في عام 1790 أعترفاً بذاتية الحكم الجمالي غير أنه أقر بأن الحكم الجمالي.. رغم أنه ذاتي.. الا أنه يتوجه للحكم العام. لذلك فهو ليس نسبياً ولا مطلقاً.. ومع ذلك، لم يعنِ كانط كثيراً بالأعمال الفنية الملموسة، غير أن حركة التأمل التي قام بتدشينها قد أدت الى ازدهار الجماليات في فلسفات شيلينغ وهيغل، والى أنبثاق النظريات الأدبية عند شيلر وهمبولدت وآخرين عديدين. وأكد شيليغل على أهمية أن يكون النقد منتجاً – لامجرد نقد محافظ – يشكل محفزاً للأنبثاق الأدبي من خلال الأرشاد والتحريض..

أما أوغست ويلهلم فقد أهتم بدور التاريخ.. حيث عد النقد بالنسبة للنظرية والتاريخ هو حلقة الوصل الوسيطة.. ((فالتفكير النقدي في الماضي كان عملية تجريبية دائمة من أجل أكتشاف الخلاصات النظرية)).. ثم طور ((أدام مولر)) (1779 – 1829) مفهوم هذه الوظيفة الوسيطة للنقد.. حيث توصل الى وجهة نظر ذات نزعة تأريخية تامة.. ((فأنتقد فريديك شيليغل لأنه لم يلاحظ الأستمرارية الكاملة للتقاليد الأدبية ولأنه أغدق الثناء على نوع واحد من أنواع الفن، هو الفن الرومانتكي)).

وصاغ صموئيل تيلر كوليريدج برنامجاً طموحاً بهدف الحصول على ((أعراف ثابتة للنقد، مقرة سابقاً، ومستخلصة من طبيعة الأنسان)).. وأتجه أتجاهاً سيكولوجياً تمثل في وضع القدرة التخيلية في مرتبة أعلى من التهيؤات - والعقل في مرتبة أعلى من الحواس.. غير أنه لم يطور ذلك الى نظرية نقدية.. وحاول ((هازليت)) بوعي صياغة مفهوم ((النقد الجماعي)).. فقد خاطب جمهور الطبقة الوسطى الجديد، أملاً في توعيته ثم سوقه نحو الأستمتاع بالأدب.. وبذلك يبّرﺉ الناقد من صفتي الحكم والتنظير.. ليكون وسيطاً بين المؤلف والجمهور.

 ونتيجة لتأثره بهيردر والأخوين شليغل.. فقد تبنى توماس كارلايل فكرة النقد المتعاطف. حيث حدد هدف الناقد بقوله ((هوتقمص رؤى المؤلف)).. لكن النظرة القديمة للنقد تعود ثانية على يد ماكولي الذي وصف الناقد بأنه ((ملك مدجج بالسلاح، مسلح بقوانين السوابق الأدبية، يتحتم عليه أن يقود المؤلف الى الموقع الصحيح الجدير به)).. وتردد ((أدجار)) في اعتبار النقد علماً أم فناً.

 أما رالف والدو ايمرسون.. كشأن كارلايل.. لايعترف الا بالنقد التقمصي والتمثلي.. ويقول بجرأة غربية أن ((قارﺉ شكسبير هو أيضاً شكسبير)).. ومع ظهور كتاب فيكتور هوغو عن شكسبير، تكرس الأتجاه نحو إدانة النقد التقويمي العلاجي الذي أستمر في فرنسا لفترة طويلة.. غير أن شارل أوغستين سان – بوف كان أكثر النقاد الفرنسيين أنهماكاً في التفكير الدائب بالنقد خلال القرن التاسع عشر.. والذي أصبح لفترة من الوقت ((داعية)) فيكتور هوغو..

ومع ذلك فأن عودته الى الذوق الكلاسيكي قد أدت الى اعادت الأعتبار للوظيفة التقويمية للنقد، والنبرة السلطوية، بل وللوثوقية العقائدية ((فالناقد الحقيقي يسبق الجمهور، يوجهه ويرشده.. يصون التقاليد ويحفظ الذوق)) كذلك ظل ماثيو ارنولد مخلصاً لفكرة التقويم كمثال أعلى للنقد.. ودافع عن المعيار الواقعي ((لأنه يستند الى معايير دائمية)).. فيما هاجم المعيار التاريخي لأنه ((يشوه القيم، يبالغ في تقدير اعمال كانت مفيدة في مرحلة من مراحل تطور الأدب))، كذلك هاجم المعيار الشخصي لأن ((أهواءنا وظروفنا)) تجعل ((التقويم ذاتياً))..

 أما ناقد ايطاليا الأكبر في القرن التاسع عشر ((فرانسيسكو دي سانكتيس)) فقد أكد أهمية دور الناقد ((بترجمة عملية الإبداع في العمل الفني الى عالم الوعي)).. فيما دعا في ألمانيا ((فان ويليهلم ديلثي)) عام 1887 من وجهة نظر سيكولوجية الى الصراحة العلمية في فن الأدب.. وناغمه في ذلك ((هيبو ليت تين)) في نظريته ((العنصر، البيئة، اللحظة)) ليعد ابرز من سعى الى صياغة النقد وفق نماذج العلوم الحتمية. وحاول ((أميل هينيكان)) من أتباع (تين) تجاوز أساتذه على أساس علمي مختلف حيث أنتقد ثلاثيته مفضلاً عليها سيكولوجية المؤلف والجمهور.. باتجاه نقد أدبي ((تركيبي)) يتضمن (جماليات وسيكولوجيا وسوسيولوجيا ضمن منظومة أطلق عليها اسم ((أنثروبولوجيا)) – علم الأنسان -)..

ويرى ((جون أدينتغون سيموندز)) في النهاية بأن النقد ليس علماً، وأنما يمكن ممارسته بروح علمية.. وصنف النقاد الى ثلاثة انماط: القاضي ((هو الناقد الكلاسيكي الذي يصدر حكمه وفقاً لمبادﺉ ووفقاً لقرارات أسلافه))، والعارض ((هو الناقد الرومانتيكي الذي يعرض أحاسيسه الخاصة))، والمحلل العلمي ((فهو المؤرخ المورفولوجي الذي ينظر الى الأدب بمنظار تطوري)).

وطالب ((سيموندز)) بان يجمع الناقد بين هذه الأنماط الثلاثة. وللتأكيد على أهمية التعاطف والتماثل وبصيغ متعددة ومن قبل الكثير من الكتاّب فقد نظر بودلير الى النقد على أنه تعبير عن الذات، ونقد الذات.. حيث صاغ مثاله صياغة جيدة بقوله: ((يجب أن تدخل الى جلد الكيان المخلوق، أن تصبح منغمساً بعمق في المشاعر التي يعبر عنها، وأن تحس بها أحساساً شاملاً، بحيث يبدو ذلك وكأنه نتاجك الخاص))..

 وقدمت الحركة الجمالية الأنكليزية أطروحات مشابهة.. فقد أكد والتر باتر على واجب الناقد في أقتناص الفردية والفرادة في العمل الفني.. أما أوسكار وايلد، فقد غالى في الدعوة الى الذاتية.. ففي مقالته ((الناقد كفنان)) عام 1893 اعتبر ((النقد فناً ابداعياً)).. وعد النقد شكلاً من السيرة الذاتية.. ((والعمل الفني مجرد نقطة انطلاق لعملية ابداع جديدة لاتشترط وجود علاقة واضحة بما يتم نقده)).. أما الموضوعية فهي مثال سخيف.. (أن الناقد لا يستطيع تفسير شخصية وعمل الآخرين الا بتكثيف حدة شخصيته).

* فصل من كتاب اسرار المواهب

دراسات في النقد الادبي

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 1/نيسان/2009 - 4/ربيع الثاني/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م