تحديات اعادة الاعتبار للدبلوماسية الامريكية

اوباما ومهمة استعادة التوازن بين المؤسسات المدنية والعسكرية

 

شبكة النبأ: من الثابت أن الموازنة العامة أحد أهم الوثائق التي يثبت من خلالها النظام السياسي مدى التزامه بمبادئه ووعوده للناخبين، ومن هنا حظيت وثيقة الموازنة العامة لعام 2010 التي تقدم بها الرئيس باراك أوباما للكونجرس في أواخرفبراير الماضي باهتمام خاص، والتي ما تزال في عداد المقترح المبدئي، ولن تظهر تفاصيلها بشكل واضح قبل أبريل القادم، لكن الخطوط العريضة لهذا الطرح تؤكد التزام أوباما بتحقيق تغيير في توجهات السياسة الأمريكية على الساحتين الداخلية والخارجية.

فعلى الساحة الخارجية تعكس النسخة الأولية للموازنة رغبة أوباما في استعادة مكانة الولايات المتحدة على الساحة الدولية من خلال تدعيم دور الدبلوماسية وزيادة المعونات الدولية وتسديد مستحقات المنظمات الدولية، وهو ما ينعكس في عنوان الوثيقة الذي جاء: "عهد جديد من المسئولية: تجديد الوعد الأمريكي".

وعلى الجانب الآخر ينتظر أن يشهد الإنفاق على التسلح، بما في ذلك السلاح النووي، تقلصًا في الموازنة الجديدة. بحسب موقع تقرير واشنطن.

بنود الإنفاق على السياسة الخارجية والأمن

يبلغ حجم الموازنة المقترحة للعام المالي الجديد 3.6 تريليون دولار، هذا بالإضافة إلى مشروع إنفاق طارئ قيمته 7.1 مليار دولار من المنتظر أن يوجه للجهود الإنسانية خاصة في أفغانستان وباكستان والعراق. وتتكون الميزانية المخصصة للأمن من ثلاثة محاور للإنفاق حسب تصنيف الميزانية الموحدة للأمن Unified Security Budget هي: الهجوم (الجيش)، والدفاع (الأمن الداخلي(، والمنع (وهو دور الدبلوماسية).وقد تم اقتراح الاعتمادات التالية لكل منها:

أولاً: وزارة الدفاع ـ البنتاجون ـ (المسئولة عن الهجوم): ستحصل على 533.7 مليار دولار بزيادة 4% عن المخصصات الأساسية في موازنة 2009. هذا بالإضافة إلى جانب مخصصات إضافية قيمتها 130 مليار دولار لمساندة العمليات الخارجية خاصة في أفغانستان، مع تقليص العمليات العسكرية في العراق.

ثانيًا: وزارة الأمن الداخلي (المسئولة عن الدفاع). وهي تهدف لحماية النقل والاتصالات والحدود ومحاربة الإرهاب، وخصص لها 42.7 مليار دولار، وهي زيادة قدرها 1% عن موازنة العام الماضي. وقد سعى مشروع الموازنة لتقليص الإنفاق في هذا المجال من خلال اقتراح زيادة الرسوم على أمن الطيران بداية من عام 2012.

ثالثًا: وزارة الخارجية (المنع (Prevention: اقترح مشروع الموازنة تخصيص 51.7 مليار دولار للوزارة وهي زيادة مقدارها 9.5% عن العام السابق.

ويمكن القول: إنه من حيث معدل الزيادة، فإن وزارة الخارجية هي الرابح الأول، ولكن من حيث إجمالي المخصصات، ما تزال وزارة الدفاع هي صاحبة النصيب الأكبر. فالإنفاق العسكري يمثل أكثر من 12 ضعفًا الإنفاق على الدبلوماسية والمعونة الدولية، وأكثر من 87% من الميزانية الموحدة للأمن. ولكن الظاهر أن هذه الزيادة في ميزانية وزارة الخارجية لها معنى رمزي يشير إلى القناعة بأهمية إعادة ترسيم العلاقة بين الوزارتين. وذلك بعد سنوات من توسع دور وزارة الدفاع منذ أحداث سبتمبر عام 2001، حين شهدت ميزانية الدفاع ارتفاعا غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، وصار الجيش يتدخل في مشروعات تنموية وإنسانية ودبلوماسية التي من المفترض أن تضطلع بها وزارة الخارجية والوكالات التابعة لها مثل وكالة المعونة الدولية United States Agency for International Development وهيئة السلام Peace Corps بدور ريادي. وتوضح الأشكال التالية من مشروع الموازنة توجهات الزيادة في مخصصات الوزارات الثلاثة منذ عام 2006.

حسابات الربح والخسارة

خرج مشروع الموازنة الأولى الذي طرحته إدارة أوباما ليؤكد التزامه باستعادة التوازن بين المؤسسات المدنية والعسكرية في السياسة الخارجية الأمريكية، وهو التوازن الذي اختل لصالح المؤسسة العسكرية خلال إدارة بوش، وذلك على الرغم من زيادة مخصصات وزارة الخارجية بالنظر للتوسع في برامج التعاون الدولي، فقد استمر تدخل المؤسسات العسكرية في إدارة عدد من هذه المشروعات وذلك بشكل أثار استياء العاملين بالمؤسسات الدبلوماسية والمشتغلين بالتنمية الدولية. وقد جاءت المقدمة الخاصة بميزانية وزارة الخارجية الأكثر تفصيلاً مقارنة بقسمي وزارة الدفاع والأمن الداخلي، واشتملت على إشارات لضرورة تغيير ما أفسدته إدارة بوش، وهي الإشارات التي جاءت بعديدٍ من الأقسام الأخرى بالموازنة. وفي هذا الإطار كانت أهم النقاط التي أشارت إليها مقدمة موازنة وزارة الخارجية ما يلي:

- تهدف الإدارة للاتجاه إلى مضاعفة حجم المعونات الدولية المقدمة حاليًا.

- زيادة المعونات غير العسكرية لأفغانستان وباكستان، وهيكلة المعونات للعراق بحيث تسهم في إنهاء الحرب وتمكين العراقيين من تولي السلطة في بلدهم.

- زيادة المخصصات للمبادرات الخاصة بالطاقة والصحة وتغير المناخ والاستثمارات الزراعية وهيئة السلام.

- الالتزام بدفع حصص الولايات المتحدة في المنظمات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وسداد المتأخرات عليها.

- زيادة عدد العاملين بوزارة الخارجية ووكالة المعونة الدولية وغيرها من الهيئات الدبلوماسية والتنموية.

- زيادة المخصصات الموجهة لمنع الانتشار النووي ومكافحة الإرهاب.

ورغم دلالة هذه التوجهات على الرغبة في فتح صفحة جديدة مع المنظمات الدولية، وتدعيم القوة الناعمة Soft Power للولايات المتحدة، إلا أن الصورة لن تتضح إلا مع خروج تفاصيل المخصصات المالية للنور، فمثلا ليس من الواضح كيف سيكون توجيه الزيادة المقترحة في المعونة الدولية، وكيف ستواجه الإدارة التوازنات والتنازلات السياسية المطلوبة لتوفير الأموال لسداد المتأخرات الأمريكية للمنظمات الدولية.

ولكن الواضح أن وزارة الدفاع سيكون عليها مواجهة خيارات صعبة فيما يتعلق بتقليص المخصصات الموجهة لعدد من البرامج وضرورة إلغاء برامج أخرى. وقد أشار وزير الدفاع روبرت جيتس في مقالة بعدد يناير/فبراير (2009) من مجلة الشئون الخارجية Foreign Affairs إلى عدم إمكانية مواجهة المخاطر الخارجية فقط من خلال زيادة موازنة الدفاع وإنما لابد من توجيه الإنفاق لمواجهة الأخطار القائمة بشكل فعال. كما صرح بضرورة التحكم في سيل الإنفاق العسكري الذي انهمر منذ أحداث سبتمبر. وهو ما يتفق مع توجه أوباما لضرورة تقليص الاعتمادات الموجهة لبرامج تسليح هي أقرب لاحتياجات الحرب الباردة، مثل الطائرات F-22 وغيرها من نظم التسلح ذات التقنية العالية، مع تأكيد ضرورة تطوير الاستعداد لمواجهة أخطار مثل الهجمات التي تواجهها القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان. كذلك يبرز في الموازنة اهتمام أوباما بتقليص حجم الترسانة النووية الأمريكية، حيث تقترح الموازنة زيادة مخصصات وزارة الطاقة للاستثمار في برامج منع الانتشار النووي والطاقة النظيفة.

دلالات التغيير

إن مقترحات التغيير التي طرحتها إدارة أوباما في مشروع ميزانية 2010، الذي لم يُعد بالكامل بعد، تُعد خروجاً على نمط التوازن بين وزارتي الخارجية والدفاع في قيادة السياسة الخارجية الأمريكية خلال عهد الرئيس الأسبق بوش الابن. وكما كانت الأزمة الاقتصادية أحد العوامل التي أسهمت في وصول أوباما لمقعد الرئاسة الأمريكية، فإن هذه الأزمة أيضًا تعد أحد دوافع هذا التوجه الجديد، فهناك قبول بضرورة تخفيض المخصصات الباهظة الموجهة لبرامج الأسلحة المتطورة والنووية، والتي لا تضيف قيمة ذات شأن للأمن الأمريكي، باستثناء استفادة شركات عملاقة تعمل في مجالات ذات صلة بالتسلح وأعضاء بالكونجرس وأجهزة رقابية من هذه المخصصات فيما يعرف بالتحالف العسكري الصناعي Military-Industrial Complex. كذلك وجهت الأزمة الاقتصادية الأنظار إلى ضرورة الاهتمام بالدول الفقيرة التي سيقع عليها عبء كبير بسبب تأزم الوضع الاقتصادي العالمي. كما برز من خلال إخفاقات السياسة الخارجية في عهد بوش ضرورة الاهتمام باستعادة قدرة الولايات المتحدة على التأثير بطرق غير عسكرية.

ويبقى هذا الطرح الذي تقدمت به إدارة أوباما لموازنة 2010 طرحًا أوليًّا سوف تُجرى حوله مفاوضات وصراعات عنيفة تسعى فيها الأطراف ذات الصلة الحفاظ على مصالحها. فسيتجه أعضاء الكونجرس الذين توجد شركات عملاقة للإنتاج الحربي في دوائرهم للضغط حتى لا يتم تقليص مخصصات التسلح المهمة بالنسبة لهم. كما يبقى أن تظهر نتائج قرارات الإدارة بشأن زيادة المخصصات المعونة الدولية، وما إذا كانت ستذهب إلى دول ذات أهمية استراتيجية مثل العراق وأفغانستان وباكستان، أم للدول الفقيرة في أفريقيا وآسيا، كما سيكون على الجميع الانتظار للتعرف على نتائج زيادة إمكانيات وزارة الخارجية فيما يتعلق بقدرتها على استعادة الدور الدبلوماسي للولايات المتحدة في مجال العلاقات الثنائية ومن خلال المنظمات الدولية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 29/آذار/2009 - 1/ربيع الثاني/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م