الشباب: ارتباك بين السرعة والدقة في إنجاز الاعمال

إعداد: علي حسين عبيد

شبكة النبأ: جُبل الانسان على الجديد في كل شيء، فهو دائم البحث عما يطور حياته ويجعلها أكثر غنى وامتلاءً، ولا يمكن ـ لأيّ منّا ـ أن يعيش بمعزل عن العالم لوقت طويل .. تلك حقيقة اجتماعية وثقافية .

فقد تبقى في بيتك لساعات معينة، أو لأيام معدودات لا تلبث بعدها أن تشعر بأ نّه ضاق عليك، وأ نّك بحاجة إلى مغادرته .

وقد تبقى قابعاً في مكان ما لفترة ما، غير أنّك لا يمكن أن تبقى معتكفاً هناك إلى أمد طويل، فما هي إلاّ أوقات ـ تطول أو تقصر ـ تقضيها في هذا المكان أو ذاك حتى تضيق به بحثاً عن مجال أوسع ونطاق أرحب .

فحتى القرية أو المدينة الكبيرة التي تعيش فيها تشعر أنّها محدودة وضيّقة، ولا بدّ من الانطلاق إلى دائرة أو أفق أوسع منها .. فترحل .. وتسافر .. وتجوب أقطار الدنيا .

ولذا ترى هواة السفر وعشاق السياحة يرودون بقاع الأرض ويجوبون آفاقها بحثاً عن عيش أرغد، وأمان أوفر، وعلم أوسع وتجارب أغنى .

فالأرض ـ بحسب التعبير القرآني ـ مناكب .. وهي مناكب عريضة قادرة على حمل تطلّعات الانسان وطموحاته وآماله وآفاقه الواسعة المتسعة .

ومنذ القدم كان الانسان ـ رغم بدائية وسائل التنقل ـ لا يقرّ له قرار، فهو كثير التنقل والتجوال للأسباب المذكورة ذاتها .

فالقرآن ـ مثلاً ـ يحدثنا عن رحلتين لقريش .. رحلة الشتاء ورحلة الصيف .. الأولى إلى اليمن والثانية إلى الشام لغرض المتاجرة وتبادل البضائع واكتساب المنافع والأرباح .

والقرآن ـ أيضاً ـ يحدّثنا عن رحلة (الإسراء) و (المعراج) في جولة كونية وتأريخية وسماواتية، من بين أحد أهم أسبابها اطلاع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو خاتم الأنبياء والمرسلين على آفاق جديدة أوسع من آفاق الجزيرة العربية المحدودة .

والقرآن ـ أيضاً ـ يدعونا إلى السعي في مناكب الأرض ليس توسعة في المعاش والرزق فقط ، بل توسعة في الفكر والخيال والتجربة والعلاقات وما إلى ذلك .

عصرنا الذي نعيش فيه، اختزل لنا ذلك، فقرّب المسافات وأدنى البعيد حتى بتنا فعلاً في (قرية كونية صغيرة); فما لم تره بالعين المجردة ـ لصعوبات مالية أحياناً وليس اتصالاتيةـ تراه بها ولكن عبر وسائل اتصال كثيرة من بينها التحقيقات والأفلام المصوّرة .

مرحلة الشباب والحماس الكبير:

ولعل مرحلة الشباب هي الأكثر حماسة في مراحل عمر الانسان، فيكون البحث والاطلاع على كل شيء ديدنه وهاجسه الدائم، وغالبا ما يبحث عن آفاق جديدة يجدد فيها طموحاته وطاقاته معا، وطالما أن عصرنا هو عصر الاتصالات .. وكنتيجة طبيعية لذلك، فقد أصبح عصر المعلومات، أي تعاطيها وتبادلها بيسر وسهولة أكثر من ذي قبل .

فيتجلّى ذلك فيما تقع عليه عيناك، وما يصغي له أذناك، وما تقطعه من مسافات شاسعة وأنت جالس في مكانك لا تبرحه.

فالتلفاز المحلي الذي كان ينقل ما يجري في المحافظة أو البلد ، أصبح (فضائية) تصلك بأقطار الدنيا وقارّاتها السبع، وتوصل العالم كلّه إلى بيتك في دقائق بل ثوان معدودات .

وجهاز الهاتف الذي كان ينقل لك ذبذبات الصوت ، صار ينقل لك الصوت والصورة معاً .. بل صار يتنقّل معك حيثما ذهبت وأينما حلقت وأبحرت وحللت .

والبرقيات التي كنت تبعثها سابقاً في كلمات مضغوطة صار بإمكانك إرسالها عبر (الفاكس) لتصل الطرف الآخر ـ مهما كان بعيداً ـ في لحظات .

ثمّ جاء الاختراع البارع (الانترنيت) .

هذه الشبكة العنكبوتية التي تمدّ أذرعها ـ عرضاً ـ إلى أقصى اليمين وأقصى اليسار و ـ طولاً ـ إلى أقصى الشمال وأقصى الجنوب ، وإذا بها تجمع سبل الاتصال كلّها في واحدة ، فهي الإذاعة وهي التلفاز وهي المكتبة وهي الصحيفة وهي النادي وهي الندوة وهي المقهى .. وهي .. وهي ..

هل صدّقت الآن أن إدارة هذه القرية الكونية ، ليس بالمشكلة أو المعضلة التي كان يتصورها آباؤنا وأجدادنا .

الشباب وعصر السرعة:

وطالما ان الشباب هم الاكثر طاقة من غيرهم، فتجد انهم غالبا ما يميلون الى انجاز اهدافهم بأقصى ما يمكن من سرعة، ولذلك بدأ العصر يأخذ طابع التسارع حتى وصفه المتابعون بأنه (عصر السرعة) كنتيجة لوسائل الاتصال السريع ووسائط النقل المتطورة برّاً وبحراً وجوّاً .

فأنت تلاحظ أنّ المسافة الزمنية بين قفزة علمية وأخرى راحت تضيق، فلم نعد نحتاج إلى عقد وعقدين من الزمن أو أكثر حتى يتكلّل اختراع ما أو تجربة ما بالنجاح، بل باتت مسألة سنوات معدودة .

النظرة الخاطئة لمفهوم عصر السرعة:

وإلى جانب ما أفرزه هذا الواقع من سعة في العلوم والمعارف في الميادين المختلفة، فإنّه كشف أيضاً عن أنّ الكثير من النظريات والآراء والاختراعات العلمية السابقة، بل حتى على صعيد النظريات التعليمية والاجتماعية أحياناً، هي عرضة للتبدل والتغيير في سياق الزمن المتصاعد، فلقد اندثرت نظريات أو تراجعت فاسحة المجال لنظريات أكثر تطوراً ونضجاً، ويتجلى ذلك في مجال الصحة والأجهزة التقنية الكهربائية والالكترونية .

غير أنّ المثير للانتباه هو أنّ مصطلح (عصر السرعة) قد أسيء فهمه واستغلاله . فإذا رأيت تلميذاً ينهي مطالعة كتاب مدرسي أو أي كتاب آخر في ظرف دقائق، وتعجب لذلك فإنّه يردّ على تعجبك بأ نّه في عصر السرعة. وإذا قاد شاب سيارته بسرعة فائقة يتجاوز فيها الحدود المسموحة، قال: إنّنا في عصر السرعة ..

وإذا تناول الشبان والفتيات الأطعمة الجاهزة أو السريعة الصنع حتى ولم تكن صحية، قالوا: نحن في عصر السرعة .. وإذا أنجز فنان شاب لوحته بسرعة ، أو كتبت فتاة أديبة قصيدتها بسرعة، وإذا قامت علاقات بين بعض الشبان أو بعض الفتيات بسرعة ونسخت بسرعة، فإنّك تسمع منهم تبريراً غير مقنع، إنّنا في عصر السرعة ولا شيء يمكن أن يدوم .

وقد تعذر هؤلاء وهؤلاء في بعض الأحيان لأ نّهم يختزلون أوقاتاً كانت تهدر على أعمال لا تحتاج إلى كل هذا التبذير، كالبقاء طويلاً في المطبخ، أو الجلوس ساعات طويلة للثرثرة أو التسكّع في الشوارع وما شاكل ذلك .

ولكنك لا تجد العذر للأعمال غير الناضجة أو المطبوخة على نار هادئة خاصة وإن ذلك يتنافى مع ثقافتنا الاسلامية «رحم الله امرأً عمل عملاً فأتقنه» كما يتنافى مع روح العصر التي تتطلب الدقة العالية في الإبداع والمنافسة .

الأعمال بين السرعة والدقة:

كما قلنا أن عصرنا يتميز بطابعه السريع، ولذلك غالبا ما يرغب الانسان لاسيما الشباب الى انجازه عمله بأقصى سرعة، وهنا سيحدث الخلل المتوقع دائما حيث الارتباك الذي ينتج عن التضاد بين الدقة والسرعة في الانجاز، إذ انّ السرعة والدقّة لا تلتقيان إلاّ نادراً، وبعد أن تكون المهارة قد وصلت أعلى مراتبها، ولذا فمثل الشاب أو الفتاة اللذين يسرعان في إنجاز أعمالهما دون توخي الدقّة، كمثل الذي يقطف ثمرة غير ناضجة (فجّة) ليأكلها .. هل تراه يستذوقها ؟ هل يجد طعمها كطعم الثمرة الناضجة اللذيذة الشهية ؟

إنّنا لا ندعو إلى إنجاز العمل الذي يحتاج إلى ساعة بيومين، أو الذي يحتاج إلى يوم بأسبوع لا سيما بعد ما أعانتنا في ذلك تقنيات حديثة كثيرة، لكن ذلك لا يعفينا من ضرورة الانجاز الدقيق المتكامل الذي ينافس الانجازات المماثلة أو يقترب منها .

إنّ عودة الفنان الشاب إلى لوحته بعد رسمها قد يجعله يضيف لمسات جمالية أخرى عليها ، وتأنّي الأديبة الشابة في كتابة قصة أو قصيدة يوفر لنتاجها شرطاً من شروط الإبداع ، ويقلل فرص النقد والمؤاخذة، وهكذا الأمر في كل شأن حياتي أو علمي أو فني أو أدبي .

تبريرات غير مقنعة لإضاعة الوقت:

وثمة مفارقة أخرى، فالذين يدّعون أ نّهم في عصر السرعة، ويبررون بذلك النقص الحاصل في أعمالهم، تراهم ينفقون الساعات الطوال في لعبة لكرة القدم، وساعات أطول أمام الانترنيت، وساعات متواصلة أمام التلفاز، وساعات في التجول بالسيارة أو سيراً على الأقدام في الأسواق وأماكن النزهة ..

إنّ مفهوم (عصر السرعة) يستخدم في المواضع الخطأ، فأنت تسرع في الموضع الذي يحتاج إلى الدقّة والتريث والتأني، وتبطئ في المواضع التي لا تحتاج إلى ذلك .

فما زال الوقت المهدور عبثاً بين الشباب والفتيات، بل ازداد هدراً .. وما زالت الأوقات المضيّعة على الهوامش .. كثيرة، وكان بالإمكان أن يستثمر الوقت الفائض في أعمال أكبر وانجازات أكثر، لكننا لا نجد ذلك إلاّ في حدود ضيقة .

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 28/آذار/2009 - 30/ربيع الاول/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م