كيف يمكن لبعض المسئولين في الحكومة العراقية ان يتحدث عن مصالحة مع
حزب البعث؛ رغم اعتبار حزب البعث حزبا منحلا محظورا من الناحية
الدستورية والقانونية، لكونه حزبا قمعيا ومستبدا، ارتكب جرائم ضد
الإنسانية، وجرائم حرب وجرائم إبادة جماعية، وهجر الملايين من
العراقيين قسرا، ولم يرع أثناء 35 سنة من حكمه، أي قضية من قضايا حقوق
الإنسان قط.
لذا لا يؤيد العديد من المعنيين بمجال العدالة الانتقالية وحقوق
الإنسان في العراق، فضلا عن غالبية المواطنين العراقيين، فكرة التصالح
مع رموز النظام السابق أيا كانوا؛ قبل أن تستكمل العدالة الانتقالية
المطلوبة بالنسبة للدولة التي خرجت لتوها من قبضة حكم مستبد وقمعي إلى
حكم تتوفر فيه مقومات الحرية وبعض العدالة كافة عناصرها وشروطها.
وبحسب مختصين في القانون الإنساني الدولي "تركز العدالة الانتقالية،
على الأقل، على خمسة مناهج أولية، لمواجهة انتهاكات حقوق الإنسان
الماضية:
(1) المحاكمات (سواء المدنية أو الجنائية، الوطنية أو الدولية،
المحلية أو الخارجية).
(2) البحث عن الحقيقة وتقصي الحقائق (سواء من خلال تحقيقات رسمية
وطنية مثل لجان الحقيقة أو لجان التحقيق الدولية أو آليات الأمم
المتحدة أو جهود المنظمات غير الحكومية).
(3) التعويض (سواء من خلال التعويض الرمزي أو العيني أو إعادة
التأهيل).
(4) الإصلاح المؤسسي (بما في ذلك الإصلاحات القانونية والمؤسسية
وإزاحة مرتكبي الأفعال من المناصب العامة وإقامة تدريب حول حقوق
الإنسان للموظفين العموميين).
(5) إقامة النصب التذكارية وإحياء".
دول كثيرة مثل العراق، شهدت فترة انتقالية صعبة من حكم مستبد إلى
حكم يتجه نحو العدالة الاجتماعية، مثل ألمانيا "إبان الحرب العالمية
الثانية" واليونان "أواسط السبعينيات" والأرجنتين "1983" وتشيلي "1990"
وجنوب إفريقيا " 1995" كذلك المحكمتان الجنائيتان الدوليتان
ليوغوسلافيا ورواندا، وأوروبا الشرقية وغيرها، وكل هذه الدول بذلت
جهودا غير طبيعية لترسيخ معنى العدالة لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان،
كالتعامل الجدي والعملي مع انتهاكات الماضي من خلال فتح ملفات وكالات
الأمن الداخلي السابقة (على سبيل المثال في ألمانيا) وفي منع منتهكي
حقوق الإنسان السابقين من الوصول إلى مناصب في السلطة من خلال عملية
التطهير (كما في تشيكوسلوفاكيا في 1991)، وتأليف لجان التحقق وتقصي
الحقائق، وتوفير أشكال مختلفة من التعويضات لصالح الضحايا، والبحث عن
كل ما يمكن أن يحقق الكرامة لضحايا الاستبداد وأهليهم.
إلا أنه مازال أمام العراقيين لتحقيق العدالة الانتقالية طريق طويل،
والجهود التي تبذلها الحكومة العراقية وبعض المؤسسات الدولية في هذا
الشأن لا ترتقي إلى مستوى الذي يُطمئن إليه، بل، ترتكب جهات حكومية
عراقية خطأ فادحا من خلال دعوتها المتكررة إلى "المصالحة الوطنية"
وتبني برامج حكومية مركزة، قبل أن تنجز المؤسسات الدستورية المعنية
بشؤون ضحايا المرحلة الماضية جزءا من أعمالها، وهو ما يظنه الكثير من
العراقيين دعوة صريحة "لطي صفحة الماضي" أو "للعفو والنسيان" فتضعف ثقة
الضحايا وذويهم- تدريجيا- بالقائمين على المرحلة الانتقالية، ويفقد
مشروع العدالة جوهره وروحه.
المدافعون عن حقوق الإنسان والمتضررون من سياسيات النظام البعثي،
على حد سواء، يحتجون بشدة على اعتبار المصالحة تعني طي صفحة الماضي
وعفا الله عما سلف، ذلك لان المصالحة الحقيقية يجب أن تكون مرتبطة
بالمحاسبة والعدالة والاعتراف بالجرائم الماضية. كما أن النزعة إلى
المصالحة تقدم غالبا كهدف نهائي وقابل للإنجاز والتحقق في المستقبل،
والإفراط في التركيز على المصالحة دون التماشي مع عناصر العدالة
الانتقالية الأخرى قد يؤدي إلى فشل وخيبة أمل كبيرة بين العراقيين.
أجاب ضحية من ضحايا البعث؛ عندما سأل عن رأيه في المصالحة مع رموز
النظام السابق وضمهم للدولة أنه " من مصلحة المسئولين العراقيين الذين
تقلدوا الحكم بفضل دماء وتضحيات أبناء هذا الشعب، أن يحترموا هذه
الدماء، وهذه التضحيات، وأن لا يراهنوا قيد أنملة، لا من قريب ولا من
بعيد، على تضحياتنا، وأن يحسبوا حسابا لأي خطوة يخطونها بهذا الاتجاه،
لان القضية لا تعنيهم لوحدهم، بل، تعني هذه الطائفة المتضررة والمهضومة،
ولينتظروا العدالة حتى تقول قولتها، أو يشاركوا في تحقيقها، وعند ذلك
لكل حادث حديث".
والحقيقة أن هناك دعوات إنسانية كثيرة، لا يمكن للحكومة العراقية
والداعين إلى المصالحة لوحدها تجاهلها، تدعو جميعها إلى مراجعة شاملة
وكاملة لكل الملفات المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان إبان النظام
السابق، وتطرح هذه الدعوات- للبحث في الماضي وعدم نسيانه كأنه لم يكن-
العديد من المبررات المعقولة من أهمها:
1- تقوية الديمقراطية:
يعتبر العديد من الأشخاص أن الديمقراطية لا يمكن أن تقوم على أساس
أكاذيب، وأن جهودا مستمرة ومنظمة وتوافقية لمواجهة الماضي يمكن أن تؤدي
إلى ديمقراطية أكثر قوة. ويتم ذلك بشكل كبير من خلال إرساء المحاسبة
"مثل مكافحة الإفلات من العقاب" ومن خلال بناء ثقافة ديمقراطية.
2- الواجب الأخلاقي في مواجهة الماضي:
يستدل نشطاء حقوق الإنسان والضحايا وغيرهم بأن هناك واجبا أخلاقيا
في التذكر، ولقبول الضحايا والاعتراف بهم كضحايا. كما أن نسيان الضحايا
والناجين من الفظائع يعتبر شكلا من أشكال إعادة الإحساس بالظلم
والأهانة.
3- من المستحيل تجاهل الماضي:
ثمة مبرر آخر وهو أنه من المستحيل تجاهل الماضي أو نسيانه – فهو
دائما يطفو على السطح – لذلك من الأفضل إظهاره بطريقة بناءة وشافية.
ويمكن أن نطلق على البديل الآخر اسم "فوران" الذاكرة حيث يغلي الغضب
وعدم الرضى تحت سطح الحياة السياسية وبالتالي ينفلتان من وقت لآخر.
4- لنمنع ذلك في المستقبل:
طبقا لهذا المبرر نرى أن مواجهة الماضي تخلق نوعا من الردع.
فالتذكر والمطالبة بالمحاسبة هما وحدهما الكفيلان بالحيلولة دون ارتكاب
أعمال شنيعة في المستقبل.
هذا بالإضافة إلى كون أن العديد من البعثيين مازالوا يمثلون تهديدا
حقيقيا للنظام السياسي والأمني بعد 2003، ومازال العديد منهم هاربا من
قبضة العدالة، بينما يقبع قلة من منتهكي حقوق الإنسان، لا تتجاوز
نسبتهم 2% في أقفاص المحكمة الجنائية العليا، وهم يتمتعون بالأمن
والاستقرار، ويحصلون على ألوان شتى من الطعام والشراب، رغم صدور أحكام
جنائية مختلفة بحقهم، تتوقف الحكومة العراقية عن تصديقها وتنفيذها
لأسباب واهية، يوصفها بعضهم "بالسياسية"، بينما في طرف الآخر يعاني
مئات الألف من ضحايا البعث ونظام صدام، أنواعا متعددة من المعانات
والآلام، دون أن يحصلوا على الحد الأدنى من حقوقهم المعنوية والمادية
في العدالة الانتقالية المفترضة.
ولكي تتحقق العدالة الانتقالي في العراق بجميع عناصرها وشروطها،
نطرح مجموعة من المقترحات والآليات تعتبر من الناحية الإنسانية
والأخلاقية واجبة على السياسيين والمثقفين العراقيين وغير العراقيين،
وينبغي تفعليها، أهمها:
أولا:- ضرورة الاستمرار والتواصل الجدي والعملي لمحاكمة الجناة
ومرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان في العراق، محاكمة عادلة ومنصفة، أمام
الرأي العام المحلي والدولي، وعدم الاقتصار على بعض رموز النظام السابق
من باب ذر الرماد في العيون، والتوسع في شمول رجال الأمن والأمن الخاص
وتشكيلات المخابرات والاستخبارات والمجندين المشاركين في أعمال غير
قانونية، بالإضافة إلى المدنيين المشاركين مشاركة فعلية في ارتكاب مثل
هذه الجرائم، حيث يعتبر موضوع الإفلات من العقاب أو "المساءلة الجنائية"
لمرتكبي جرائم الاختفاء القسري أو التعذيب أو بقية انتهاكات حقوق
الإنسان الجسيمة، إحدى القضايا العقدية في موضوع تجارب الانتقال
الديمقراطي، وما لم يكن هناك محاكمات جدية وشاملة ومعقولة لا تتحقق
العدالة الانتقالية أبدا.
ثانيا:- أن إحدى التحديات الكبرى في تجارب الانتقال الديمقراطي بعد
المساءلة الجنائية، هي عمليات الكشف عن الحقيقة، ولعل الكشف عن الحقيقة
يشكل احد اختيارات صدقية رجال السياسة والقانون، إذ أن من أهم مبررات
كشف الحقيقة هي رغبة الضحايا وعائلاتهم حين كانت الأسئلة تتواتر: لماذا
تم كل ذلك؟ كيف حصل؟ من هو المسئول؟ لماذا وقعت كل تلك الانتهاكات
والتجاوزات؟ أين الحقيقة؟ أي أماكن الدفن؟ إلى غير ذلك من الأسئلة
المشروعة والإنسانية. وكذلك عدم طمس الماضي، فالماضي أساس الحاضر
والمستقبل ولا بدّ من توحيد وتوثيق الذاكرة، ولا بدّ أيضاً من معرفة
تفاصيل ما حدث لكي لا تنسى.
كما تشكل إجراءات كشف الحقيقة عنصر ردع مستقبلي ضد الانتهاكات
سواءًا الإدلاء بشهادات أو روايات وسواءً اختلطت معها أحداث اجتماعية
او سياسية أو قانونية لكنها كإقرار حقوقي مهم لتشكيل مدلول قانوني يشحذ
الذاكرة ويعيد الاعتبار للضحايا ويسهم في تعزيز العدالة الانتقالية
وبالتالي يوفر أساساً للمصالحة الوطنية وللانتقال الديمقراطي.
ثالثا:- ضرورة تنبه الحكومة العراقية إلى تشكيل هيئة أمينة ونزيهة
وعارفة تعمل على التحري عن المسئولين في النظام السابق ممن مازال يتقلد
منصبه ويمارس دوره في تضليل العدالة وعزله فورا عن منصبه وإحالته إلى
المحكمة المختصة. حيث أن إجراءات عزل مرتكبي الانتهاكات من مواقع
السلطة إذا ما نفذت بطريقة عادلة ومناسبة ودقيقة يمكن أن تكون جزء
شرعيا من عملية إصلاح مؤسسي اكبر في الفترات الانتقالية. كما أنها يمكن
أن تؤدي دورا مهما في ضمان عدم تكرار الانتهاكات التي حدثت في الماضي،
وأن تمنع مرتكبي الانتهاكات من استعادة نفوذهم وسطوتهم على السكان
المتضررين أثناء عملية إعادة البناء الاجتماعي. كما جاء في " العدالة
المؤجلة-المساءلة وإعادة البناء الاجتماعي في العراق-إريك ستوفر".
رابعا:- بوسع الحكومة العراقية العمل بشكل أكثر جدية وواقعية على
تهيئة الظروف الملائمة لصيانة كرامة الضحايا، وتحقيق العدل بواسطة
التعويض عن بعض ما لحق بهم من الضرر والمعاناة. وينطوي مفهوم التعويض
على عدة معان من بينها: التعويض المباشر "عن الضرر أو ضياع الفرص"، ورد
الاعتبار "لمساندة الضحايا معنويا وفي حياتهم اليومية" والاسترجاع
"استعادة ما فقد قدر المستطاع". ويمكن أن يتم التعويض المادي عن طريق
منح أموال أو حوافز مادية، كما يمكن أن يشمل تقديم خدمات مجانية أو
تفضيلية كالصحة والتعليم والإسكان.
ولكن يجب أن تكون إجراءات التعويض، سواء من حيث تبريرها أو إعدادها
موجهة نحو المستقبل بدلاً من أن تكون موجهة نحو الماضي. ومعنى ذلك أنها
يجب أن ترفع من مستوى حياة الضحايا بأقصى قدر ممكن مع الاعتراف والقبول
في الوقت نفسه بأن الترضية الكاملة مستحيلة.
خامسا:- أن تعمل حكومة العراقية والأطراف المعنية بالعدالة
الانتقالية، بشكل جدي وحقيقي على إعادة النظر بكل القوانين والتعليمات
والإجراءات التي تفضي إلى تسهيل وتقديم كل الخدمات التي من شأنها تخفف
وطأة الظروف التي عاشها الضحايا أو أهليهم بما يجعلهم أكثر ميلا لقبول
وتعزيز مبدأ العدالة الانتقالية، كتسهيل انتقالهم أو عودتهم أو استرجاع
حقوقهم أو منحهم جنسية، وغيرها.
سادسا: - ثمة مجموعة واسعة من الإجراءات الرمزية لجبر الضرر والتي
يمكن أن تؤخذ كذلك بعين الاعتبار، سواء بالنسبة إلى الضحايا بشكل فردي
(مثلا، رسائل شخصية للاعتذار من طرف الحكومات التالية، أو مراسيم دفن
ملائمة للضحايا القتلى، الخ) أو الضحايا بصفة عامة (مثلا الاعتراف
الرسمي بما جرى من قمع في الماضي، أو تخصيص أماكن عامة وأسماء الشوارع
أو رعاية المعارض الخاصة أو الأعمال الفنية أو بناء النصب التذكارية
العامة والمآثر والمتاحف الخ).
إن فوائد الإجراءات الرمزية هي أنها نسبيا ممكنة التحقيق، ويمكنها
أن تصل إلى فئات واسعة، وأن تتبنى تعريفات أوسع للضحية، ويمكنها أن
تشجع الذاكرة الجماعية والتضامن الاجتماعي. أما السلبيات الكامنة فهي
أنها لا توفر أي منافع مادية للضحايا. كما أنها في غياب إجراءات
تعويضية ملموسة أخرى، قد تترك انطباعا مؤلما بأنها قدمت كتعويض كامل عن
المعاناة التي تم التعرض لها.
سابعا:- إعطاء فرصة أكبر وصلاحيات أكثر للمؤسسات الدستورية الراعية
لشؤون المتضررين والضحايا من أمثال مؤسسة الشهداء والسجناء ولجان
المفصولين لكي تتمكن هذه المؤسسات من أداء دورها بالتزامن مع الأدوار
التي يمكن أن تقوم بها المؤسسات السياسية الأخرى لتتكاتف جميعها
وتتسابق في الوصول إلى جوهر العدالة الانتقالية، فواقع الحال يشهد أن
مؤسسات الضحايا وذويهم تتعرض إلى مزيد من التقييد، ومزيد من التعطيل
المتعمد من قبل بعض المسئولين في الحكومة العراقية لا يرغبون ولا يردون
أن تتحقق العدالة للجميع.
ومن هذا كله، يتضح أن الخطاب السياسي حول مصالحة الجناة ليس من
أولويات العدالة الانتقالية، وهو خطاب غير إنساني وغير أخلاقي، إذ كيف
يمكن أن تتحقق المصالحة بينك وبين الجاني؛ إذا ما قام باعتقالك
وتعذيبك، أو قتل والدك وأخفى جثمانه، أو أغتصب زوجتك أو أختك، أو هدم
بيتك ومحاه من الوجود، أو هجرك قسرا وتركك قرب الحدود، ثم ينكر ذلك
كله، ولا يعتذر عن ذنبه؟ فهل من عاقل يقول: أن عليك مصالحة مثل هؤلاء
؟!.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com |