بالرغم من كل الفرص العظيمة التي وضعتها الاقدار الالهية للعراق
وطنا، شعبا، نخبا مثقفة وعلماء دين، الا ان هذا البلد المظلوم لايزال
يعيش في اللا معنى !. فقد ادى التنوع الى تفكك في النسيج الاجتماعي
والى تمزقات تثير الاستغراب، بدلا من ان يكون عامل قوة ومتانة في
موزاييك بلد عرف منذ الآف السنين بتعدد وتلون ثقافاته، وتنوع جذوره
الاثنية والدينية. وما وحدة العراق (الحالية) مثلما كانت في (السابق)،
سوى وحدة ترابية، بل الادهى حينما اصبح الدين والقومية عاملا هدم،
وسببين من اسباب التشظي.
فالاسلامية والاسلاموية المدعومة بأصولية متشددة تحولت الى (اسلامية
الطائفة) وبالمقابل تكفير غيرها من الطوائف، وتشظت هذه الاخرى، حتى
اصبح لكل فئة من المذهب الواحد ارضه وسماءه الخاصة به، وكلا منهم يعتقد
(ان الله معنا) تلك العبارة الشهيرة التي كانت تختم على احزمة الجنود
الالمان في العهد النازي. اما القومية المدعومة بنزعة عنصرية فقد
تراجعت هي الاخرى بكل ما فيها من سلبيات الى ما هو اسوأ ما يعني (قومية
الجماعة).
اذن، نحن بحاجة الى امل حقيقي يقضي على الخواء والى بلسم يشفي
ارواحنا الجريحة مما مر عليها، نحتاج الى شعار (الخدمة تضمن المواطنة)
ذاك الشعار الذي رفعه المشرعين الامريكان في وقت كانت تعاني بلادهم من
الانقسام الجغرافي والاثني والديني.
لابد لنا اذن، الخروج من دائرة اللامعنى الى محيط المعنى !. من
الانحطاط الى النهضة. لابد من الدخول في لحظة الفرصة المناسبة وهي لحظة
التفكر والعرفان عند علماء اللاهوت، ولحظة التوبة والاعتراف عند علماء
الاديان، ولحظة طرح الاسئلة واتخاذ القرار الذي لامفر منه عند علماء
الاجتماع. نحن بحاجة الى وحدة حقيقية، ليس (الوحدة المهيمنة) وليست (وحدة
السيطرة)، بل الوحدة التي يسهم في بنائها كلا منا، فرادى وجماعات،
طوائف واثنيات... قوميات واديان. كلا يقدم اسهاماته الخاصة من العمل
والثقافة والايمان، ويبذل بالتمام والكمال جميع الامكانات التي يحملها
في ذاته. بهذه الوحدة (فقط) يكون للحياة معنى. ويكون فيها جميع
المؤمنين بالله وبحق الحياة سائرون نحوها بهمة وعزيمة لا تلين...
ولكن قبل كل شيء علينا ترك التضليل، ذاك الذي يتم باستعمال اشد
الاصطلاحات تطرفا، وبتغطية الحقيقة بأسم قيم الحرية - الانسانية -
الاخلاق الفاضلة، في حين اننا نعيش واقع النقيض تماما.
فالحرية للاقوى والاكثر دهاءا في افتراس الاضعف والافقر وبأسم
الحرية والانسانية والليبرالية والاسلام والمذهب، ترتكب كل يوم اسوأ
الابتزازات، واذا لم يكن هناك رادع من دين لدى الجميع، فأن الشرف
والحرص على صون الكرامة الانسانية للمواطن العراقي يوجبان بناء جبهة
رفض لانواع التدمير والافناء المعنوي الذي يرتكب بحقه. وتلك هي المهمة
الرسالية لعلماء الدين، العلماء الذين لم ينجرفوا في عالم الفوضى
والعنف.
قبل خمسة اعوام من الان تنادى عدد من علماء العراق النجباء وتبنوا
تأسيس لبنة مشروع يسعى لجمع الكلمة وتوحيد الصفوف مشروع لا يقوم على
اساس الحزبية والحزبوية والطائفة والطائفية والمحاصصة، انبت في مستهل
مسيرته الخمسية (هيئة التضامن الروحي) التي تطورت فيما بعد الى (مجلس
علماء الاديان)، وقبل عامين من الان اطلقت لبنة اخرى على ذات الطريق
والهدف والبذرة المؤمنة الصالحة النافعة الا وهي (المبادرة الوطنية
لفتح المساجد المغلقة) والتي نجحت في ترميم وافتتاح اكثر من عشرين
مسجدا ببغداد وفي تحريك الاجواء نحو فتح كافة المساجد المغلقة في
العراق وترميمها واقامة الصلوات المشتركة فيها. تلك المسيرة تتكلل
اليوم في مشروع شورى العلماء الذي انبتها اول مرة، ليظهر واضحا جليا
فضفاضا في بعض اهدافه المرحلية، وعلى النحو التالي:
1. تحقيق الاتفاق العام في الرأي بين فقهاء الامة.
2. اشاعة روح المحبة والالفة بين ابناء الملة الواحدة.
3. فتح الحوار مع كافة الفرق الاسلامية بل وكافة الاديان والطوائف
في العراق من اجل تحقيق لحمة الوطن شعبا وارضا.
4. محاولة توحيد خطب ائمة المساجد والحسينيات في العراق كافة بتنظيم
خطبة مركزية شاملة تراعي ما يتلائم مع مستوى الحال والوضع والواقع.
بعد ما تقدم، ينبغي الاعتراف بأننا كمجموعة علماء دين كنا نبحث
دائما بين المفردات عما يشبهنا، عن امر يجعلنا اكثر التصاقا بذاتنا،
اكثر قربا من انسانيتنا، عن قيمة تكون عنوانا للتواصل... طريقا لخلاص
العراق مما كان يعانيه. في ذات السياق نسمع في كثير من الاحيان عن
مفردة (التسامح). وهي كلمة ربما تخرج من افواه العديد من الناس، كما ان
البعض قد يستعذب نطقها ! الا ان السؤال المحير الذي يطرح نفسه، هو
التالي:
هل اننا جميعا نعمل وفق هذه المفردة ؟ بمعنى آخر، هل نحن كمسلمين
نعمل بهذه الفضيلة الاخلاقية والقيمة الانسانية العالية التي دعت اليها
فطرة الانسان وعقله، كما دعا اليها الدين الاسلامي في الكثير من نصوصه
وآثاره، وجميع الرسل الذين ارسلوا بالحق ؟
والاجابة بكل بساطة، نسبية، كلا. لان البعض يؤمن بالمفردة ولا
يطبقها، وآخرون لا يؤمنون بها ولكن يدعون الى تطبيقها. وبين هذا وذاك،
ضاعت القيمة والفائدة التي من الممكن ان تعم على البلاد من تأصيل
المعنى في التسامح قولا وعملا. بل الاعظم من ذلك، انتقلت تلك البذرة
الاسلامية الاصيلة الى الغرب فأستثمرها قولا قانونا... عملا وتطبيقا
حيث اهتمت الامم المتحدة مثلا منذ تأسيسها بالتسامح، فقد جاء في ديباجة
ميثاقها: " قد آلينا على انفسنا ان نؤكد من جديد ايماننا بالحقوق
الاساسية للانسان وبكرامة الفرد وقدره … وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا
ان نأخذ انفسنا بالتسامح وان نعيش معا في سلام وحسن جوار".
ومما جاء في الاعلان العالمي لحقوق الانسان: " التربية يجب ان تهدف
الى تنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات
العنصرية او الدينية ".
كما وردت العبارة في الاتفاقات الدولية التالية:
· العهدين الدوليين المتعلقين بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية
والثقافية والحقوق المدنية والسياسية
· الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع اشكال التمييز العنصري
· اتفاقية حقوق الطفل
· اتفاقية مناهضة التعذيب
· الاعلان الخاص بالقضاء على جميع اشكال التعصب والتمييز القائمين
على اساس الدين او المعتقد
· اعلان مباديء بشأن التسامح الصادر عن منظمة الامم المتحدة للتربية
والعلوم والثقافة (اليونسكو) في 16 نوفمبر 1995
واذا كان التسامح يعني:
الاحترام والقبول وتقدير التنوع الثري للثقافات والتراث الفكري
ولاشكال التعبير وللصفات الانسانية او الوئام في سياق الاختلاف
بأعتباره واجبا اخلاقيا وسياسيا وقانونيا او الاقرار بأن البشر
المختلفين بطبعهم في مظهرهم واوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم لهم الحق
في العيش بسلام.
فلا ابالغ حينما اقول ان كل ذلك يتمثل بشورى العلماء تلك الممارسة
الجماعية التي تقضي بنبذ التطرف او اعتراض كل من يعتقد او يتصرف بطريقة
مخالفة قد لا يتوافق عليها الدين الاسلامي او تضر بمصلحة الوطن
والمواطن وقيم التعايش والتراحم والتصالح بين مختلف ابناءه.
اما عن اشكال التسامح في النظام الداخلي للمجلس، فهي كالآتي:
· التسامح الديني
· التسامح العرقي
· التسامح الثقافي
· التسامح الاسري
ووسائل المجلس واساليبه في تطبيقها وتحقيقها سلمية بالكامل، تتمثل
بالحوار، العقلانية، المبادرة، قبول الاخر في ارائه وافكاره، التهدئة،
احترام حرية الآخرين والتعليم والتثقيف. اما عن صوره الواجبة في القول
والفعل، فتتمحور ب:
1. احترام الاديان السماوية الاخرى والتعاطي معها وتحاشي انتقادها.
2. رفض الارهاب والتطرف والتعصب.
3. الاعتراف بالتعددية الدينية والتعايش.
4. اقرار مبدأ النقاش والحوار مع الرأي الآخر، بأعتباره جزءا مكملا
من روحية التسامح.
اخيرا، ان مشروع شورى العلماء هو وسيلة (ليس بديلا)، وفكرة جديدة
ورائدة على طريق بناء دولة القانون والدستور والتعايش في العراق على
اسس وقيم الحق والعدل وفق ما يبغيه ابناءه وليس كما يريد له اعداءه.
* عضو الامانة العامة لشورى العلماء
من كلمة القيت في المؤتمر التأسيسي الاول
لشورى العلماء المنعقد ببغداد بتأريخ 21 / 3 / 2009. |