التأثيرات السلوكية للاعلام الشمولي

كفاح محمود كريم

يتعرض الأطفال في منطقة الشرق الأوسط وربما في الشرق عموما وتحديدا في المجتمعات العربية والإسلامية إلى نمط من البرامج التلفزيونية الموجهة، فكل هؤلاء أي سكان هذه المنطقة  يمثلون ثقافة متقاربة، ومنطقة جغرافية متلاصقة، ومجتمعات متداخلة، تدين معظمها بالإسلام عقيدة ومنهجا تربويا واجتماعيا.

إن معظم هذه المجتمعات بكل شرائحها واقعة تحت تأثير نمط من الإعلام الموجه من قبل الأنظمة السياسية الحاكمة  ومن أهمها الإعلام المرئي وبالذات قنوات البث الفضائي، وربما كانت شرائح الشباب والنساء والأطفال أكثر تأثرا من غيرها بحكم طبيعة مجتمعاتنا ونظمها التربوية.

إن الطفل وكما يعلم الجميع ورقة بيضاء ونقية وشفافة جدا، تتأثر بنسائم الأحداث والكلمات والصور والأفعال، فما بالك من إغراءات الشاشة ووسائلها السحرية في جذب الأطفال إلى عالمها، ومن ثم ترك بصماتها لاحقا على مسار نموها وتطورها السيكولوجي والاجتماعي والأخلاقي، مما يجعلها أسيرة أنماط من السلوك المرتبط بنوع تلك البرامج وتأثيراته أي ذلك النوع من البرامج التي يراها الطفل.

لقد كانت التجربة العراقية بالغة وقاسية في تأثيرات الإعلام المرئي على شخصية وسلوك الطفل ونموه خلال ثلاثة عقود من تاريخ العراق، فالأطفال العراقيون الذين كانت أعمارهم خمس سنوات ابان الحرب العراقية الإيرانية، شاهدوا وقائع تلك الحرب القاسية من خلال برنامج (صور من المعركة) الذي كان يبث فضائع تلك الحرب وصور القتلى وأشلائهم، ولقطات حية من عمليات القتل خلال المعارك إضافة الى صور دفن أكوام من القتلى وأشلائهم في شقوق أرضية تنفذها البلدوزرات، وقبل ذلك عمليات الإعدام العلني وفي الساحات العامة وأمام الناس وفي وضح النهار سواء في العراق أو السعودية والباكستان ولبنان وإيران وأفغانستان والعشرات من هذه الدول، مما ترك آثارا بالغة على شخصية أولئك الأطفال الذين أصبحوا رجالا الآن ومنهم تطورت الكائنات الانتحارية؟.

ولستُ هنا بصدد الحديث عن شكل الشخصية التي تكونت على خلفية ذلك النمط من الإعلام الموجه، والذي لم ينتبه إلى تأثيراته على هذه الشريحة من المجتمع بقدر الإشارة الى ما نراه اليوم من قسوة وأحداث دامية وعمليات قتل بدم بارد سواء بالأسلحة الاوتوماتيكية أو بالذبح من الوريد الى الوريد أو بالقتل الجماعي للسكان بالسيارات المفخخة والانتحاريين المفخخين، إنما يعود إلى ذلك الإعلام والتربية والحروب التي عاشها وعايشها طفل ذلك اليوم وتلك المناطق.

وبقدر تأثيرات هذا النمط من الإعلام على شخصية الطفل، فان النمط المنفلت في البرامج الفنية والثقافية وأفلام (الأكشن) والكارتون ونوع الأفكار التي تتبناها تلك البرامج، يكون تأثيرها بليغا على نمو وسلوك الطفل لاحقا وباتجاه لا يقل مأساوية وانحرافا عن السلوك الأولي في القسوة والقتل البارد والنزعة الى حل المشكلة بإفناء طرفها الآخر.

إن الأعلام الفضائي يخترق كل الحواجز وربما يدخل عنوة الى العقل والعاطفة لدى الشباب من كلا الجنسين ويكون تأثيره أكثر عمقا وتقليدا لدى الأطفال.

ففي مجمل مناطق الشرق، والأوسط أكثرها، والإسلامية جميعها تقريبا، تسخر هذه الوسائل لإشاعة العبودية والاستكانة من خلال تأليه القائد أو الرئيس أو الملك أو النظام وجعله صورة أخرى للإله، حيث توظف ألاغاني والأناشيد والألحان الجميلة في تصنيع صورة للقائد لا مثيل لها على الأرض وربما في الكون في مخيلة وذاكرة الأطفال، بما يقلل من شأن المتلقي وتحويله تدريجيا الى ما يشبه قطيع الأغنام أو غيرها من الحيوانات التي يقودها الإنسان، ولست مغاليا إذا ما قلت ربما تكون الحيوانات معذورة في انقيادها للإنسان كونه من نوع ارقي في التكوين والجنس، والكارثة حينما يلقن ويربى الإنسان على انه هناك من صنفه ونوعه مما هو أرقى منه ويمنحه حق أبادته أو استعباده وإلغاء إنسانيته تدريجيا.

وبالتأكيد هناك فروقات قيمية وأخلاقية وحضارية بين مجتمعاتنا هنا في الشرق عموما عما موجود هناك في غرب الأرض، وليس كل ما ورثناه فاسدا أو لا يصلح للحياة المعاصرة، وربما كان التطرف واحدا من أشد أمراضنا حتى في موضوعة التربية والسلوك والأعلام.

علينا إذن أن ندرك تماما بأن مجتمعاتنا تتميز بثقافة خاصة بها، ولا يمكن استنساخ تجربة الأوربيين هنا، في نوع توجهاتنا وعلاقاتنا الاجتماعية والفنية والدينية، وعليه يجب أن نكون أكثر جدية في تحصين أطفالنا وتوجيههم وتوعيتهم ببرامج ملائمة لنمط ونوعية ثقافتنا وحضارتنا دونما الانغلاق والتقوقع أو التطرف والغلو بما يشوه منظومتنا الأخلاقية والقيمية العليا، واخذ ما هو مفيد فعلا والابتعاد عما لا يتناسق مع ثقافتنا وبنائنا الأخلاقي والاجتماعي لا بعدوانية وكراهية للآخرين باعتبارهم أقوام منحرفة أو ساقطة كما يشيع المتطرفون للتعريف بالآخرين، بل بالتأكيد على وجود حضارات وثقافات مختلفة تصلح في مكان ما وربما لا تصلح في أمكنة أخرى.

إن الإعلام المرئي ذو تأثير بالغ أكثر من أي شكل من أشكال إيصال الأفكار وأنماط السلوك، لما يتمتع به من مميزات الصورة والصوت وفنون الإخراج والحيل السينمائية والخيال الذي يعتمد عليه أساسا الطفل في تصوراته للأحداث من حوله، ولذلك كان تأثير الشاشة واضحا على سلوك وثقافة أطفالنا وخاصة الأكثرية الساحقة منهم والذين يعيشون في القرى والأرياف ويعتبرون هذا الجهاز أي التلفزيون منارا تربويا وسلوكيا.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 21/آذار/2009 - 23/ربيع الاول/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م