تركيا من غرب يرفضها إلى شرق يصبو إليها

د.محمد مسلم الحسيني- بروكسل

أعلنت الجمهورية التركية عام 1923م حيث ألغيت الخلافة العثمانية وأصبح مصطفى كمال أتاتورك أول رئيسا للجمهورية التركية. فصل أتاتورك الدين عن الدولة وأعلن تركيا دولة علمانية، فأغلق الكثير من المساجد وحوّل بعض المدارس الدينية الى مدارس مدنية. منذ ذلك الحين صارت تركيا لا تتفاعل جديّا مع شؤون الشرق الأوسط السياسية الساخنة، ربما لتجنب إتهامها بأنها تطمع في الرجوع الى الإمبراطورية العثمانية من جديد، أو لأنها لا تريد أن تقحم نفسها في مشكلات هي في غنى عنها خصوصا بعد أن أدارت وجهها عن الشرق وسعت للحاق بركب الغرب.

في السنوات الأخيرة وفي ظل حكم حزب العدالة والتنمية في تركيا برئاسة السيد رجب طيب أوردغان، تغيّرت طبيعة تعامل تركيا مع قضايا الشرق الأوسط حتى صار لتركيا نسغ صاعد في شجرة الشرق الأوسط المتشابكة أغصانها. صارت أكثر فعالية وحيوية وصار لها دور واضح في القضايا الشائكة وبرز ثقلها السياسي باديا للعيان. لعبت دورا مرموقا في تخفيف التشنجات السياسة اللبنانية وأنفتحت على سوريا، رغم التحذيرات الأمريكية، فلعبت دور الوسيط الناجح بين سوريا وإسرائيل لإعادة المحادثات السياسية بينهما. فقد كسبت ثقة سوريا من جهة وإعتمدت على ثقل علاقاتها مع إسرائيل من جهة أخرى فصارت وسيطا تطمئن له الأطراف المتنازعة.

كان لموقف السيد أوردغان في سويسرا، على هامش مؤتمردافوس الإقتصادي، تأثيرا عميقا على أحاسيس وأفكار المجتمع العربي والإسلامي. فقد فضح وبشدة السياسة الإسرائيلية المراوغة والهجوم العسكري الإسرائيلي غير المتكافىء على قطاع غزة المعزول والهمجية الإسرائيلية التي تجلت من خلال قتل الأطفال الأبرياء والعزل. هذا الموقف الشجاع كان فريدا من نوعه لم يتعود عليه العرب والمسلمين من خلال قادتهم، حتى صارت الأصابع تشير بإتجاه الشمال وتجعل من أوردغان بطلا فارسا مقداما تتطلع الأمة العربية والإسلامية اليه والى أمثاله!.

دور تركيا لم يتوقف على سوريا ولبنان وفلسطين فحسب بل إمتد الى إيران أيضا. ففي الأشهر الأخيرة إستخدمت تركيا نفوذها الدبلوماسي لحل النزاع حول الملف النووي الإيراني بين إيران والغرب. فوساطتها مقبولة من قبل الغرب وإيران على حد سواء لما تتمتع به من صلات ممتدة مع الغرب وصبغة دينية تحترمها إيران. كما أن توسطها بهذا الملف يجعلها تستفيد من النتائج، فهي ستكسب رضا الغربيين وإحترامهم إذا ما نجحت في وساطتها من جهة وستعطل المشروع النووي الإيراني الذي سيضر في ميزان القوى في المنطقة ويخلصها من بروز إيران كأكبر قوّة ستراتيجية في الشرق الأوسط.

الدور التركي في الشرق الأوسط بدأ ينمو ويكبر بإضطراد في هذه الفترة للأسباب المذكورة أعلاه ولأسباب أخرى أذكر منها مايلي:

1- تورط الأمريكان في مستنقع العراق وإفغانستان شلّ حركة أمريكا وبطّأ من فعالياتها في منطقة الشرق الأوسط وجمد مشاريعها خصوصا " مشروع الشرق الأوسط الكبير" الذي شيّع جثمانه قبل أن يرحل مؤسسه من ناصية السلطة. كما أن دول الإتحاد الأوربي منقسمة على نفسها في أفكارها ورؤاها إزاء الموقف في الشرق الأوسط فهي غير قادرة على قيادة دور ريادي حاسم في هذه المنطقة خصوصا في الفترة الأخيرة حيث تعاني من مشاكل مالية وإقتصادية حادة جعلتها تئن من وطأتها وضراوتها. هذه الأمور جعلت الساحة مهيّأة لصولة الأتراك وإبراز دورهم وأخذ مواقع ستراتيجية يمكنهم التحرك من خلالها.

2- الحلم التركي في الإنضمام الى دول الإتحاد الأوربي بدأ يتلاشى بسبب الإعتراضات القوية لبعض دول الإتحاد وبسبب الشروط القاسية التي يفرضها الإتحاد على تركيا من أجل التعجيز والدفع الى الفرار. في عام 2004م قررت دول الإتحاد الأوربي بدأ محادثات الإنضمام مع تركيا، حيث كان السيد رجب طيب أوردغان متحمسا لهذا الإنضمام تلبية لرغبة شعبه. في نفس هذه الفترة بدأ الإتحاد الأوربي محادثات إنضمام كرواتشيا اليه، غير أن الأخيرة قد وصلت الى المراحل الأخيرة من عملية الإنضمام بينما بقيت تركيا تراوح في مكانها!

وضع العراقيل أمام إنضمام تركيا الى دول الإتحاد الأوربي ولّد خيبة أمل حقيقية في نفوس السياسيين الأتراك وفي نفسية المواطن التركي على حد سواء. فقد إنخفضت نسبة الأتراك الراغبين للإنضمام الى دول الإتحاد من 70 في المائة الى 40 في المائة، وبدأ المواطن التركي يشعر بأن رفضه من قبل دول الإتحاد هو بسبب الدين، مما جعله يعيد النظر في حساباته ويرجع الى تراثه وأصحابه القدامى فربما يجد من بينهم من يرحب به ويثني عليه بدل أن يكون ضيفا غير مرغوب فيه من قبل الدول الأوربية! هذا الإنطباع أدى الى فقدان شهية الأتراك للإنضمام الى دول الإتحاد حيث ظهر ذلك واضحا من خلال تباطؤ الأتراك في التعجيل بمراحل الإصلاح المطلوبة من قبل الإتحاد. وهكذا لم تستطع اللجنة الأوربية المتخصصة بإنضمام تركيا للإتحاد تشخيص أي نقطة تقدم في سجل الإصلاح من خلال تقريرها السنوي!

إخفاق الأتراك في إنضمامهم الى دول الإتحاد الأوربي جعلهم يحولون مساعيهم الى الدول العربية والإسلامية فربما تكون أرباحهم من خلال هذا التوجه وبإندماجهم الحقيقي مع المجتمع الإسلامي تفوق تلك التي تأتي من وراء إنضمامهم الى أوربا.

3- أشارت الخبرات الديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي الى أن الرأي العام وبشكل عام يميل الى الحكم الإسلامي، حيث لو أتيحت الفرصة في ممارسة عملية الديمقراطية في هذين العالمين لقفزت أصوات الناخبين قفزات على البقعة متجهة نحو الحكم الإسلامي. هذا الميل ربما يفسّر بحالة الياس والقنوط اللذين تعاني منهما شعوب المنطقة بسبب غياب الحرية والعدالة الإجتماعية والرفاه الإقتصادي في ظل الحكم الشمولي أو بسبب فقدان القسط والعدل في سياسات الغرب المتعلقة بالصراع العربي - الإسرائيلي والكيل بمكيالين في الحكم على القضايا الساخنة، حتى أصبح خيار الأحزاب الإسلامية ردة فعل معاكسة لهذه السياسة، أو بسبب تقهقر الأحزاب العلمانية الوحدوية أو القومية أو الإشتراكية التي لم تنجح في إتيان أوكلها الذي إنتظرته الشعوب منذ زمن طويل، أو لكل هذه الأسباب مجتمعة أو بعضها.

إنموذج حكم حزب العدالة والتنمية الإسلامي ربما يعتبر المثل الأعلى لدى غالبية الشعوب المسلمة بسبب إعتداله ومطاطيته وإنفتاحه وإمتداد آفاقه، مما يجعله خبرة ناجحة في نظر الكثير من الذين يتوقون أن يروا حكما إسلاميا ديمقراطيا معتدلا، يختلف عن الأحزاب الإسلامية الأصولية أو المتزمتة في رؤاها وأفكارها والتي قد تضر في سياساتها بدل أن تنفع. هذا التوافق في الفكر والرغبة والرؤى إستطاع أن يبدد عقود من عدم الثقة بين تركيا وشعوب دول الشرق الأوسط مما جعل إندماج تركيا في عالمها الإسلامي أمرا طبيعيا بل مطلوبا ومرغوب فيه.

وعلى هذا الإعتبار فقد كثفت تركيا جهودها الدبلوماسية في منطقة الشرق الأوسط وخففتها عن دول الإتحاد الأوربي، فقد زار رئيس الوزراء التركي كل من سوريا، لبنان، الأردن، مصر، الجزائر، العراق، العربية السعودية وإيران. بينما لم يزر بروكسل عاصمة أوربا منذ عام 2005م.

ربما ازدياد النفوذ التركي في منطقة الشرق الأوسط وسطوع نجم تركيا السياسي والستراتيجي في المنطقة سيجعلها رمزا يرتشد به ونبراسا يستعان فيه وقطبا ذو شحنات جذابة للأقطاب الأوربية المتباينة يستطيع قلب الآية ويجعل الإتحاد الأوربي يركض خلف تركيا بعدما كانت تركض عبثا خلفه....

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 16/آذار/2009 - 18/ربيع الاول/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م