المغايرة التي يحاول البعض صنعها عبر اداء معين، مخالفا كان او
مساندا لأي عملية فكرية، سواءً منه كان عامله الفكري هذا يرتكن إلى
الجانب الايجابي، او السلبي، فهو دليل حراك فكري، ونشاط محمود عقباه،
فحتى الباحث في الطريق الخاطئة، هو باحث يترك للآخر سبيل المواجهة
والرد والتعقيب. واستحداث مفارقة فكرية من شأنها ان تكون ديمومة حراكية
نافعة لإستكشاف الصالح من الطالح، ذلك عبر طرح الآراء، واختيار الافضل
منها.
وهذا ما يحتكم إليه أصحاب الفكر من المؤمنين بالثقافة والقائلين
بالحوار والنقاش، مع الاعتداد بالرأي والإيمان ببقاء وضرورة الرأي
الاخر. بيد ان مفاهيم هذه الرؤى المحتكمة إلى العقل والحوار العقلي، لا
تتعدى احيانا على ان تكون حالة غير مستقرة قلقة، سرعان ما تتبدل فيها
القناعات إلى استخدامات أشد خطورة، فالكلمة وحدها ربما تستطيع ان تغير
وجه العالم، بيد ان هذه الكلمة ان كانت مدعومة بعناصر تفسير غير كفوءة
تعمل على بلورة الافكار كحتمية واقعية إلى جانب ما يلائم تطلعاتها وما
تتبنيه من أفكار، في محاولة منها لإستدراج الإنسانية إلى خندق التعامل
بالقوة وسلطة (الذراع) التي تتكون وفقها قوانين الغاب.
وصراع الاقوى الذي يحتكم إليه الإنسان البدائي كطرق بديله عن الحوار
الحضاري الثقافي، بشتى أساليبه وطرقه ومكوناته.
ان الحديث عن الحوار وحتميته ووجوب وجوده، حديث مهم، ذلك لما يؤديه
من مهمة كبيرة في تفادي المشاكل الكبيرة العالقة بين الإنسانية ككل، او
الجماعات والافراد بصورة خاصة. وهذا الحوار ـ أي حوار كان ـ عليه ان
يحتكم إلى اسس ومفاهيم ومصاديق سواء علمية منهجية او متعارف عليها (عرفية).
ونحن هنا لسنا بصدد التنظير للرؤى المحيطة بمساحة الحوار، بقدر ما
نسلط الضوء على ماهية خطورة الموقف ما لو افتقدنا كمجتمع لآليات الحوار،
وهذا يبدو جليا لدى المجتمعات التي تمر في مرحلة معينة وتبحث عن أسس
البناء والتغيير، ففي هذه الفترة بالذات يسيطر على هذه المجتمعات ولع
كبير في طرح الرؤى المتباينة منها والمتشابهة، وهذا يعد حالة من سلامة
المجتمعات العقلية كونها ترتكز في خطواتها إلى أسس العقل للبناء المزمع
نحو التغيير.
غير ان هذا التفكير لايشمل الغالبية العظمى من سواد الناس، وهنا
تكمن المشكلة، ذلك ان السواد الاعظم من المجتمعات بطبيعة الحال، طائعة
للإنقياد، خاصة المجتمعات الفقيرة، او ما تسمى بدول العالم الثالث،
ناهيك حتى عن المجتمعات الاخرى، وهذه الاشكالية تتلخص اسبابها بما يلي:
1) تدهور الحالة الاقتصادية، إذ لاتتاح فرص التعليم والمشاركة
الفعلية في صنع الفكر والثقافة لعامة الناس.
2) المفكر ذاته يحاول جاهدا صنع قاعدة اتكالية عريضة، لتبرير منطقه
بحجج استخدام طريقته من قبل أكثر عدد ممكن من الناس.
3) المشاركة في صنع القرار والمجاهرة بالفكر النير، بحاجة إلى ثبات
وعزيمة وجرأة، وهذا ما لا يوجد لدى الناس جميعا بسبب الخوف، إما على
المصالح العينية المادية، او بسبب فقدانهم لعامل وعنصر الجرأة، والذي
لايتاح غالبا لجميع الناس.
4) عامل الثقة المتزعزع بين الخاصة والعامة، يخلق حالة من عدم
التوازن بين الصوت، وسامعه، مما تكون عملية الفرز بين الصالح والطالح،
عملية ـ رغم بساطتها ـ صعبة احيانا. بسبب الاعلام والاعلام المضاد.
واساليب متبعة مثل الترهيب والترغيب.
ومن هذا كله ينتج العمل المحذور وقوعه، وفق فكر مشوه اولا، لينتج رد
فعل ارتجالي لا يمت للفكر والحوار بصلة ثانيا. ويكون بين الاول والثاني
بونا شاسعا، من جهة، وتلاصقا غريبا من جهة أخرى، ولنأخذ مثلا مما جرى
في العراق أبان تغير النظام، فالفتوى التي احلت دماء المسلمين تارة
تنأى بنفسها عن اي هتك لحرمة الانسان، ليقع الجهلاء تحت وقر الدسيسة
العقلية، فيمرر عليهم مشروع اجرام محبك، من قبل عقلية واعية تقوم
بالارسال الى عقلية مصنعة ومنصاعة غير واعية تعمل وفق الطاعة العمياء
دون نقاش او تفكر.
فهدم المقدس، كصرح، مهما كان هذا الصرح، ومهما تغيرت دلائله، ما هو
إلا عمل ليس اعتباطي من جهة، ذلك ان القائم على الدفع بإتجاه عملية
الهدم، لأماكن العبادة والأضرحة والقبور، هي ذات واعية جدا بخلاف عامة
المسلمين حول التعرض للأماكن القداسة لدى الناس أجمعين، ومن جهة اخرى
يقع المتشكل عقليا وفق نظريات خطيرة في مطب التبرير عبر الإنصياع
والانقياد من ثم التنفيذ، وهذا التنفيذ لا يجيء عادة، مصاحبا للإيمان
بالعمل، وانما العمل المفرغ من المحتوى للجهد العقلي أو حتى الجهد
الإيماني بالقضية المزمع القيام بها.
ان عملية بناء فكر ناضج خلاق يعتمد على البحث والتشاور والسؤال
الدقيق، هي مسألة معقدة في حد ذاتها، ذلك ان مجتمعاتنا الشرقية ـ للأسف
ـ اعتمدت ومنذ زمان طويل، على مبدأ التفكير بالنيابة، واتخاذ قراراتها
بمعزل عن مشورتها، مع رضاها الكامل، بطواعية تارة، وقسرا أخرى، وهذا
العامل له الأثر الكبير في بناء الذات الشرقية، العربية منها، وفي
تأثيث مكونات هذه الذات، فكرا ومنهجا عمليا وتطبيقيا، حتى بات الاختيار
لهذه الذات حالة صعبة ومعقدة، كونها لم تؤمن بحرية تفاعلها، فآمنت أكثر
بقدرة سلبها، ومن هنا يمكن القول ان عملية خلق حالة تفاعلية بحاجة إلى:
1) الترويج للأفكار الخاصة ودعمها، خاصة تلك التي تنادي ببناء انسان
مثابر على خدمة الإنسانية جميعا.
2) دعم الطاقات الخاصة بالشباب من منظمات ومؤسسات بعيدة عن التحزب
فيما يصب دفع العجلة الثقافية الفكرية.
3) الإبتعاد عن الأفكار الانتاجية التي تبحث عن سوق للترويج وانتظار
المنفعة الخاصة الضيقة السريعة.
4) عدم تهميش او خنق او كبح الاصوات، بل الاعتداد بالذات المحاورة،
لخلق حالة من التوازن، وعدم مصادرة الاخر بأي شكل من الاشكال.
ومن هنا تتبلور فكرة خلق وإعداد هذا المجتمع، ليكون قادرا على اتخاذ
قراراته بنفسه، وما اتخاذ القرار الذي نقصده في هذه الحالة إلا حالة من
السؤال والبحث والتمحيص، من ثم الامتزاج والقبول بالامثل من القول، قد
يظن البعض اننا ندفع بإتجاه مثالي للبنى الاساسية للمجتمع، ولكننا نقول
اننا لانريد ان يكون الشعب كله مفكرا، ولكننا نريده متفاعلا عارفا بما
يريد، محددا لمصيره عبر تلك الإرادة. |