لعبة الظل في اعمال الفنان رياض نعمة: الانسان اولاً

من التجريد الى الواقع سكون برؤية باطنية

محسن الذهبي/ لندن

شبكة النبأ: ربما يعكس الفنان العراقي (رياض نعمه – المولود ببغداد 1968) عن قصد القاعدة التي عرفت في الفن التشكيلي بانتقال اغلب الفنانيين من الواقعية الى التجريد بشكل منهجي ، فبعد ان عرفناه وتابعنا خطواته الجريئه ومنجزه في اعمال تجريدي مذ تخرج من اكاديمية الفنون الجميلة عام1992 وقبل ان يغادر العراق عام 1977 مع مجموعة من التشكيليين الشباب الذين حاولوا جاهدين خلق اجواء مغايرة للسائد  ملتزمين بروحية الفن المبتعد عن اي تأثير سلطوي، وهكذا استمر في مغتربه الدمشقي حيث كان اللون عنده تعبير حسي وليس وسيلة مجردة لايصال فكرة وعبر  العديد من المعارض الشخصية والمشتركة في دمشق وبيروت وبراغ.

لكنه قدم موخرا اعمال تقترب من الواقع يمكن وصفها بانها تطور محكوم بعوامل ذاتيه وانسانية فهو ينحو لابداع جوهري يتعاطف فيه الفنان مع قضية الانسان المستلب، فالتغيير بالاسلوب اذن جاء من خلال نمو ذهني يتجاوز بنية التخيل التي سبقت.

فمنجزه التشكيلي الجديد يحمل ملامح واقعية تعبيرية لا تبتعد عن موثراث التجريد اذ تمتاز بعوالمها المتفرده والتي تهتم بالايقاع الداخلي للشخصية عبر ملامح الوجوه الغائبه وكأنها تحيلنا الى اشخاص تميزوا في وقوفهم بالظل. ان ابرز مايميز اعمال الفنان (رياض نعمه) هو ذلك التوظيف الجريء للون مما يجعل المشاهد يحس بالعمق الفراغي لمدلول التكوين في اللوحة التشكيلية.

 فيما جاء الظل الممتد فى اعلى اللوحات اشبه بتعتيم مقصود يوحي بكل معاناة الاغتراب الانساني. انه يحاول ان يعطي الالوان حيوية ومعنى تعبيري، فالمساحات المتقاربة والمتداخلة  تظهر توافقا لونيا وتخلق علاقات واضحة الدلالة بين الاشكال المشخصة التي يعطيها لفنان اهمية واضحة ومركزية بحيث اصبحت بؤرة النظر المحاط بفراغ منظور اشتغل عليه كقيمه تشكيلية مضافة تغني المعنى العام للعمل الفني. ان هذا الفراغ وهو احد سمات الاسلوبية التي تميز اعماله.

وليحقق القيم الجمالية التي تكشف ماوراء الشكل المجرد، اذ يحولها الى رموز للصراع فاستخدام اللون وفق طريقة تتحرك افقيا وبصياغة هارمونية متوافقة تعطي انطباع واضح للحالة النفسية وتكشف عن التناقض الداخلي للشخوص عبر تدرجات اللون الواحد.

اننا امام تعامل متاني بين الافقيات والرأسيات والتوزيع المتكامل للمساحات والتباين اللوني لها، وكذلك الحوار الواضح بين الكتلة والفراغ تلك هي الاسس التشكيلية التي شيد عليها الفنان تجربتة، اذ تتسع مساحة اللوحة وتختفي بعض العناصر أو تقل اهميتها فالشخوص بهذا التعتيم وان اخذوا مركز اللوحات يظهرون محجمين وكأن الواحد منهم يذوب في تكوينات المكان وتداعياته مخلفين ظلال ليس الا.                              

 لقد شذب الفنان اشكاله الادمية واختزل الكثير من التفاصيل الزائدة  بشكل متعمد ليعطيها بعدا اعمق في ايقاض مشاعر المشاهد واستفزازه، فهو يجنح في خياله حتى وكأنه يريد ان لا يفضح تلك الوجوه فيخفيها.

ان النتيجة الطبيعية لنمو قدرة الفنان قد اوصلت رؤيتة الى ما يمكن نسميه( تغيم الصورة) فليس شخوصه التي يصورها في لوحاته مجرد - نقل – متماثل لشخوص الواقع بل هي وسيلة للتعبير عن مكنوناتها.

اذ يحاول بجهد واضح ابراز ذلك الانكسار النفسي وهو الموضوع الذي التزم الفنان بالتعبير عنه، الانسان عنده مركز الفعل الابداعي يحاول جاهدا ان يلج عوالمه الداخلية عاكسا المشاعر من خلال التباين اللوني، فاللالوان تنطفي في خلفية عميقة تساهم في اظهار تلك الاحاسيس من خلال ضبط ايقاعات الظل وكيفية نمو تدرجات الاضاءة ووقعها للايحاء بسكونية الحالة اذ يوحد ايقاعين يتابع احدهم الاخر لتجسيد الظل للشيء الساكن، وكأنه يشير بصورة ما الى معنى السكون ذاته.

فيما انعكست وبقوة موثرات الواقع الانساني المرير على رؤيا الفنان فاحالت الوانه الى تدرجات رمادية غائمة او متقدة تشبه كثيرا عتمة الواقع الذي اغنى الذاكرة البصرية للفنان فجعله يتخطى حدود الواقعية لاكتشاف لغة تشكيلية اخرى اقل ما يقال عنها انها مغايرة للانماط السائدة متجاوزا المحددات الاسلوبية ومتميزا بعوالمه الخاصة في خلق فضاء واسع لاستيعاب التفاصيل بعد تفكيك عناصر اللوحة الى جزئين محكومين بين المركز الذي يمثل الشخوص والمحيط الذي يلقي الضوء على رؤية الفنان في التحام الانسان بما يحيط به، وخلق علاقة غير منفصلة بين اجزاء اللوحة لترجمة الصورة المرئية الى صورة ذهنية تبرز هذا الصراع الانساني بتحريك الرؤية الجامدة وجعلها تأخذ مدارا متحركا في المضمون الجمالي. فالفكرة عند الفنان (رياض نعمه) تتجسد كي تمضي من شكل فني لتتمحور متحولتا الى فكرة باطنية تشي ببعدها الفكري والانساني.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 7/آذار/2009 - 9/ربيع الاول/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م