يحكى إنّ الحطيئة دخل على سعيد بن العاص, وهو يغدّي الناس. فأكل
أكلا جافيا. فلما فرغ الناس من طعامهم, تذاكروا الشعر والشعراء. فقال
لهم الحطيئة: أصبتم جيّد الشعر, ولو أعطيتم القوس باريها لوقعتم على ما
تريدون. فانتبه له سعيد, ونسبه فانتسب له. فقال سعيد: حيّاك الله يا
أبا مليكة. وأدناه, وقرب مجلسه, واستنشده. فأنشد الشاعر:
يا باري القوس بريا ليس يحسبه
لا تظلم القوس أعط القوس باريها
وصار هذا البيت مثلا يضرب في وجوب الاستعانة بأهل الخبرة والكفاءة
والحذاقة. ووجوب الاهتمام بهم ورعايتهم. فالمجتمعات الناهضة لا يمكنها
الاستغناء عن العقول الفاعلة المتميزة بنشاطاتها الفكرية. ولا يمكنها
التفريط بثرواتها الوطنية العلمية. وهذا يفسر حرصها الشديد على فتح
الأبواب أمام الخبرات والإبداعات. واهتمامها بصقل المواهب, وتنمية
القدرات. والحفاظ على الشموع المضيئة, والمهارات الواعدة, واستثمارها
الاستثمار الأمثل..
لكن عرب الشيخ متعب (الحكومات العربية) تفننوا منذ زمن بعيد بكبت
القدرات والطموحات. وبرعوا في وأد الكفاءات الطموحة, وخنق الإبداعات
المتألقة. وشنوا حملات محمومة وواسعة لتجيير المؤسسات الوطنية, وطلائها
بأصباغ فئوية قاتمة. وتسلحوا بالمحاصصة البغيضة في توسيع مستنقع
الإقطاع السياسي. ونعني به مستنقع تقطيع المؤسسات الحكومية إلى مقاطعات
مسجلة باسم التوازنات الطائفية أو العرقية أو الفئوية.
وكانت أدوات الحجب, والحرمان, والتجميد, والإقصاء, والإستغناء,
والتهميش, والتشويش, والتخويف, والتحريف هي الأسلحة القذرة المستخدمة
في وأد الكفاءات, وتثبيط العزائم, وقتل الهمم. حتى أصبحت المراكز
القيادية مقصورة على الحزبيين. ولا يمكن الوصول إليها إلا عبر بوابة
الولاءات المؤدلجة, التي تحولت إلى نافذة لتسلل الفيروسات الإنتهازية.
وباتت الساحة مفتوحة تماما للأغبياء والمغفلين والفاشلين والوصوليين.
ليتبؤوا أماكن الأذكياء والموهوبين والمبدعين. فقضت على مبدأ تكافؤ
الفرص. ولجأ الإنتهازيون إلى اتباع الأساليب الملتوية, التي انعكست
كارثيا على الفرد والمجتمع. وبخاصة في العمل المؤسسي, الذي صار مرتعا
للجهلة. فتصاعدت أرصدتهم بين نهب وسلب, وسرقة وفساد. وانتهاك لحقوق
العباد. في حين تنامت الضغوط على العلماء, وسحقتهم عجلات النسيان,
والإهمال, والإغفال, والإستلاب, والمحاصرة, والتصفية, والتشريد,
والتهجير. وصار شعار (الرجل المناسب في المكان المناسب) مجرد اكذوبة
مكشوفة. فالاختيار للأسف الشديد يجري, في معظم البلدان العربية, حسب
الإنتماء الحزبي. أو القرب من عشيرة أو أسرة صاحب القرار والاختيار.
بغض النظر عن المؤهلات العلمية أو الفنية.
فسيست المؤسسات الحكومية لجهات معينة, وأزيحت أطراف مؤثرة عن
المشهد القيادي. واستبدلت بشخصيات ضعيفة إداريا, وغير مؤهلة. وأمست
الغاية عند عرب الشيخ متعب, مقتصرة على امتلاك المفاصل المهمة, وبسط
النفوذ الرسمي, ومنع شريحة واسعة من نيل استحقاقها الشرعي والوطني.
فالحزبية والفئوية والطائفية والقبلية والعائلية, أعزكم الله, هي
المعايير العربية السائدة اليوم في تقييم الكفاءة.
وها نحن نتعرض إلى أخطر الظواهر التنموية المتمثلة بهجرة الأدمغة,
ونخسر أعظم ما نمتلكه من العقول العربية المفكرة. ومن دون أن ينبري
لإيقافها أحد. وهذا يعني الإمعان في تكريس ظاهرة الجمود والتخلف.
والاستمرار على نهج خالتي وبنت خالتي. ولعمري إنّ وأد الكفاءات أخطر
بكثير من تسونامي الكوارث التي اجتاحتنا في الماضي. وهي أخطر من كارثة
إدمان الصين على الإفيون, وتأخرها عقودا خلال الاحتلال الياباني.
ولتوضيح أبعادها, لابد لنا من الإستعانة بالمثال الذي قدمه لنا الباحث
الكندي (ريفين برينز), في كتابه (القرن المالي). عندما قال: ((إذا
افترضنا أن تعليم أحد المهاجرين العرب يكلف بلده في المتوسط عشرة آلاف
دولار. فإن ذلك يعني تحويل ثمانية عشر مليار دولار من البلدان العربية
إلى الولايات المتحدة وأوروبا كل عام ))..
وفي هذا السياق نذكر أنه: جاء في دراسة لمركز الخليج للدراسات
الاستراتيجية صدرت في مايو 2004. أن الدول الغربية الرأسمالية، قد
استقطبت ما لا يقل عن 450 ألف من العقول العربية. وأن الوطن العربي
يسهم بـ31% من هجرة الكفاءات من الدول النامية إلى الغرب الرأسمالي,
بنحو 50% من الأطباء, و23 من المهندسين.. وهكذا جفت عندنا منابع
الإبداع. وتغلغل التصحر الفكري في أروقة مؤسساتنا العلمية. وطلعت علينا
آفة الرويبضة في عز النهار, حاملة بيدها اليمنى راية المحسوبية
والجهوية. وبيدها الأخرى معول التهديم والدمار. ومما يثير الغرابة إنّ
حكوماتنا, وعلى الرغم من إدراكها لحجم الكارثة الناجمة عن نزف الأدمغة,
فانها على الصعيد العملي مازالت ماضية في وأد الكفاءات, وقتل
الإبداعات..
ختاما نقول: أما آن الأوان أن نلتفت إلى أوطاننا, ونضع الامور في
نصابها الصحيح. ونساهم في مسيرة الإصلاح والتطوير. ونسعى لاختيار
قياداتنا الإدارية وفق معايير الكفاءة والمقدرة والنزاهة. ونواصل السير
في هذا الإتجاه بعيدا عن أية اعتبارات شخصية أو حزبية أو عشائرية أو
طائفية.. ولنعلم جميعا إنّ تقدم الأمم وتطورها مرهون بالاختيار السليم
والعادل لقياداتها.. |