إنَّ حرية الفكر غير الإسلامي، أو ما اصطلح عليه الفقهاء في
دراساتهم ورسائلهم: (حفظ كتب الضلال)، من المواضيع الشائكة في الفكر
الإسلامي، فهذا (الفكر المضاد) إذا ترتب منه إشاعة الضلال والفتنة في
المجتمع يُفتى بتحريمه.
ويذكر السيد أبو القاسم الخوئي (رحمه الله) في (منهاج الصالحين /
المعاملات – ج2 ص10، مسألة33)) بأنه: (يحرم حفظ كتب الضلال مع احتمال
ترتب الضلال لنفسه أو لغيره، فلو أمن من ذلك أو كانت هناك مصلحة أهم
جاز وكذا يحرم بيعها ونشره).
فالتحريم إذاًً جاء مع احتمال (ترتّب الضلال لنفسه أو لغيره). ويذهب
الشيخ الأنصاري في (مكاسبه) إلى أكثر من ذلك، عندما يشير لفوائد (حفظ
كتب الضلال) ويقول بصراحة إنَّ : (فوائد الحفظ كثيرة).
وأضاف أنَّ: (حفظ كتب الضلال لا يحرم إلا من حيث ترتب مفسدة
الضّلالة قطعاً أو احتمالاً قريباً، فإن لم يكن كذلك أو كانت المفسدة
المحققة معارضة بمصلحة أقوى أو عارضت المفسدة المتوقعة مصلحة أقوى أو
أقرب وقوعاً منها، فلا دليل على الحرمة).
ومن تلك الفوائد تمكين الإسلاميين من الاطلاع على الفكر الآخر
وآلياته وفلسفته، ونقده بالفكر الإسلامي المشبع بالبراهين والأدلة
العقلية والمنطقية.
وهكذا فإنَّ (الفكر المضاد) كموضوع وملاك حرام بحد ذاته، أما حرية
نشره وحفظه والاستماع إليه فيخضع لحكم آخر تحكمه (العناوين الثانوية)،
لما يترتب عليه من فوائد للإسلاميين. وفي ضوء المقارنة بين (مصالح
ومضار الفكر المضاد) يستطيع الفقهاء أن يجتهدوا لاستنباط الحكم الشرعي
على كل واقعة، من خلال معرفة طبيعتها ومدى خطورتها.
إنَّ السياسة الإسلامية لها تصوراتها ومقوماتها التي لا تقود إلى
ظلم الآخرين، وخنق أصواتهم، وكبت حرياتهم. كما أنَّ السياسة المستبدة
ليست من طبيعة الإسلام ولا تمت له بصلة، فالله (عز وجل) في محكم كتابه
العزيز يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء
والمنكر والبغي.
بلحاظ أنَّ قتل الإنسان جسدياً يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون،
واغتيال فكر الإنسان ومسح ذاكرته تعتبر جريمة أيضاً، لأنها تؤدي إلى
سلب إرادة الإنسان أو تقييدها، وإرادة الإنسان هي جوهر التزاماته
ومسؤولياته في هذه الحياة.
وأريد هنا أن أضيف ملاحظة تكمل ما تم طرحه وهي: أنَّ (الفكر المضاد)
إذا تمت مصادرته فسيتحول إلى (حركة سرية)، تنتقل في مواقعها بحذر وخبث،
وفي هذه الحالة سيكون أكثر خطورة على المجتمع المسلم.
وأعتقد أنَّ الحوار البنّاء أفضل وسيلة لتجنب ذلك، حيث يتم الاطلاع
على متبنيات (الفكر المضاد)، ونقدها موضوعياً بالدليل العلمي وبالحجج
المنطقية. والحوار بطبيعة الحال لا يتم إلا من خلال الاستماع إلى الرأي
الآخر واحترامه، ثم الإحاطة به ونقده بالحكمة والموعظة الحسنة، دون
إرهاب للكلمة، واغتيال للمعرفة.
وأتخطر في هذا المجال أنَّ الشهيد المفكر محمد باقر الصدر أصدر
كتابيه (فلسفتنا، واقتصادنا) وعرض فيهما بأمانة المباني الفكرية
والفلسفية للمذهبين (الرأسمالي، والاشتراكي)، ثم نقدها نقداً علمياً
أذهل وأسكت (المد الشيوعي)، الذي تصور أنه سيطر على وجدان الأمة وفكرها
بعد ثورة عبد الكريم قاسم في العراق.
وبقي أن نعرف: بأنَّ (الفكر المضاد) ليس كله خطأ، فقد تكون بعض
تفاصيله صحيحة، حيث يتم استعارتها من الخارج وتسقط في (المفهوم العام)
وفي (القواعد والمبادئ الأساسية) الخاطئة.
والباحث الإسلامي إذا أراد أن يكون موضوعياً عليه أن يمتلك (الوسائل
والأدوات)، التي تمكنه من الفصل العلمي بين (المفهوم العام) الخاطئ
وبين بعض التفاصيل الصحيحة ؛ التي لا تُعتبر من سنخ ذلك (المفهوم)، بل
رُبطت معه وأذيبت في أعماقه لتتناغم مع (فلسفته المضادة) وآلياته.
* باحث قانوني ومفكر إسلامي
kassemabbas@hotmail.com |