من المؤكد والظاهر تماماً أن المجتمع الإسرائيلي يتجه نحو التطرف،
وهذا انكشف من خلال الهجوم الذي شنه جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع
غزة في الآونة الأخيرة، سقط خلالها الآلف الأبرياء بين شهيدٍ وجريح
وتدمير واسع للبنية التحتية في قطاع غزة، بل إن إرهاب الدولة المنظم
ترك العنان أمام إرهاب مستوطنيها لممارسة جرائمهم في مدن الضفة
الغربية، لاسيما في القدس والخليل وانتهاكهم للمقدسات الإسلامية،
فلمسنا تجاه ذلك التأييد الشعبي الكاسح لها ولاستمرارها؛ والتي استثمرت
لاحقاً كورقة رابحة لترجيح كفة المنتخبين لتولي زمام السلطة في
إسرائيل، وقد جرى تنافس فيما بين المرشحين؛ أي بين "اليمين المتطرف –
واليمين – واليمن اليسار - واليسار" وجميعهم متحدين على مبدأ واحد؛ هو
كيفية إراقة المزيد من الدماء الفلسطينية ومواصلة الاستيطان، وقضم
الأراضي الفلسطينية؛ وتهجير الشعب الفلسطيني عن أرضه، وكلاً له طريقته
التي يراها مناسبة في التعامل مع المسار السياسي والعسكري؛ وفي ترويض
المجتمع الدولي.
فكما في كل انتخابات نجد العالم يولي اهتماماً كبيراً بالشأن
الإسرائيلي ونتائجها، باعتبار ذلك عنصر هام في إرساء وتدعيم السلام
والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وهذه اللعبة ساهمت دول إقليمية
ودولية في وقت سابق بترجيح كفة قوى اليسار والسلام في إسرائيل، أي
إحداث "انقلاب" في نظام الحكم في إسرائيل تماشياً مع المصلحة السياسية
للمنطقة، وبما يخدم مصالح القوى العظمى في إقليم الشرق الأوسط.
هذا النموذج السياسي شارك فيه الفلسطينيون بشكل مباشر وبخطوات
مدروسة لإيقاع قوى السلام في إسرائيل واستدراجهم إلى فخ الجلوس على
مائدة المفاوضات، والاعتراف "بمنظمة التحرير الفلسطينية" كممثل شرعي
وحيد للشعب الفلسطيني، و تسليم الفلسطينيون جزءاً من حقوقهم الوطنية،
والتي تعرف فيما بعد باتفاق أوسلو أو "الحكم الذاتي الفلسطيني".
وبالعودة إلى حيثيات هذا السيناريو والتحكم في الشأن الداخلي "وحرف
مسار المنتخب الإسرائيلي"، فبعد قناعة الأطراف في الإدارة الأمريكية
ومنظمة التحرير عام 1992م بأن لا إمكانية لتحقيق تقدم ملموس وحقيقي في
المفاوضات قبل انتهاء إسرائيل من الانتخابات، باعتبار هذا المسار يلحق
الضرر بسمعة شامير وحزبه اليميني الرافض للحل السلمي، في المقابل كانت
أصوات جديدة تدعو إلى السلام الحقيقي مع الفلسطينيين؛ وإلى فتح حوار
مباشر مع المنظمة، وقد كان لحزب ميرتس دور بارز في مسألة الاعتراف
بحقوق الشعب الفلسطيني وفي إقامة دولة فلسطين تعيش بجانب إسرائيل، وجرى
بالفعل تأثير في مواقف حزب العمل ورابين الذي قسم الاستيطان إلى "أمني
وأخر سياسي" وخلال فترة الانتخابات ساهمت الإدارة الأمريكية في دعم
رابين، والضغط على ورقة العلاقات والمساعدات بين أمريكا وإسرائيل،
بينما ذهبت منظمة التحرير إلى إنجاح أكبر عدد ممكن من مرشحي القوائم
العربية ومن مرشحي الحزب الشيوعي الإسرائيلي.
بل إن المنظمة كلفت الرئيس عباس بعقد لقاء مع الأحزاب الثلاثة "راكاح
والعربي الديمقراطي والتقدمي" بهدف توحيد مواقفهم وضمان عدم مضاربة
بعضهم أو التنافس فيما بينهم أثناء الانتخابات، لتساهم في فوز رابين "حزب
العمل". كانت هناك عدة مسارات ومواقف وتصريحات جرى تداول بعضها : حزبي
العمل وميرتس مثل بيريز والطيبي وفيصل الحسيني وعشراوي، لحث الرأي
العام الإسرائيلي ودفعه لانتخاب مرشحي صانعي السلام، وأختتم الانقلاب
الرئيس عرفات عبر خطواته الإعلامية أثناء تواجده في العاصمة الأردنية
عمان ونقلت على الهواء مباشرة، حيث سلطت الأضواء على كل أركان الشرعية
الفلسطينية، وبالفعل حققت صدى إعلامي ومعركة سياسية اشتركت فيها
الإدارة الأمريكية ومنظمة التحرير وكل الأحزاب المشاركة في الانتخابات
الإسرائيلية، وكانت النتيجة خسارة شامير وفوز رابين ومرشحو اليسار
ووصفت تلك النتيجة بالانقلاب في إسرائيل.
كان بإمكان هذا النموذج أن يتكرر، لاسيما بعد المجزرة الأخيرة في
قطاع غزة والتي استهدفت في الغالب الأطفال والنساء العزل، بالتالي تخدم
أي حملة إعلامية توظف لتأليب الجمهور الإسرائيلي ضد صعود اليمين
المتطرف وكل من سفك الدم الفلسطيني أو ينادي بهدره، في ظل عدم التزام
إسرائيل باستحقاق السلام ورؤية بوش، لاسيما وأن العرب متمسكين
بالمبادرة العربية والتطبيع، باعتبار أن الكرة في الملعب الإسرائيلي،
والجديد في ذلك تولي الرئيس الأمريكي باراك أوباما مقاليد الحكم
وتعيينه ميتشل مبعوثاً له في الشرق الأوسط. لكن هذه البوادر أيضاً
اصطدمت بعوامل أخرى دفعت الناخب الإسرائيلي لأن يهرول لاختيار مرشحي
التطرف والإرهاب، والدليل حصول حزب إسرائيل بيتنا الذي يقوده افيغدور
ليبرمان على "15 مقعد" بمعنى تقدمه بمقعدين عن حزب العمل الذي أبرم
اتفاق سلام مع منظمة التحرير. وتراجع أحزاب اليسار الأخرى، لصالح
اليمين المتطرف، ويرجع سبب هذا التطور الخطير إلى:
1- تصاعد حدة إطلاق الصواريخ المحلية الصنع من قطاع غزة على البلدات
الإسرائيلية، منذ زمن؛ دون توقف بل أثناء وبعد الهجوم على غزة.
2- الانقسام السياسي الفلسطيني، وضعف السلطة الفلسطينية، أي الشريك
السياسي، ومن خلفها الانقسام العربي "تراجع القضية الفلسطينية".
3- فشل التهدئة وجهود إطلاق سراح الجندي شاليط من أيدي الفصائل
الفلسطينية.
4- انعكاسات نتائج حرب تموز، والوعي الإسرائيلي بمحاربة أي قوة
معادية قد تتشكل، والقضاء عليها في المهد.
5- الحملة الإعلامية التي قامت بها حكومة تل أبيب على كافة الصعد
"محلياً وإقليمياً ودولياً، ضد المقاومة الفلسطينية والعنف الفلسطيني.
رغم ذلك يبقى السؤال: هل ينجح اليمين المتطرف في تشكيل حكومة
ائتلافية؟ وإن نجح فإلى أي مدى سيصمد، وما هي محدداته؟.
* كاتب وباحث
[email protected] |