الديمقراطية سمة حضارية ينشدها الإنسان ويتطلع اليها من أجل حفظ
حقوقه وتأمين مستقبله ومستقبل أجياله، ولكي لا يصبح أداة طيّعة بيد
دكتاتور قد لا يشفق عليه ولا يرحمه.
الديمقراطية ليست ظاهرة حضارية جديدة تعرفها وتمارسها أجيال القرن
الواحد والعشرين، إنما هي ضرورة اكتشفها فلاسفة السياسة منذ القدم.
أهمية الديمقراطية في حياة الإنسان المعاصر وإرتباطها بحضارته ومقومات
نشوئه، جعلتها ضرورة حياتية يستوجب ممارستها عاجلا أم آجلا وفي كل
المجتمعات.
إلاّ أن ممارسة هذه الخبرة بالشكل الصحيح يتطلب حضور عناصرها،
فللديمقراطية أصول واسس رئيسية ومحكمة لا يمكن لمن يريد إنجاح تطبيقها
أن يتنصل منها أو يغض الطرف عنها. الديمقراطية ليست بضاعة تشتريها
الشعوب من أسواق الديمقراطيات، إنما هي علم وذوق وأخلاق ونظام وإنسانية.
رغم فوائد الديمقراطية وضرورتها لدى الشعوب فأن ممارستها بالشكل
الخاطىء وزجها في بيئة غير صالحة لها قد تعود بالكوارث والآلام بدلا من
تحقيق الأماني والأحلام!
المحاذير التي قد تصاحب عملية تطبيق الديمقراطية في وسط غير مهيّأ
لتطبيقها كثيرة ومعقدة أدرج في هذا المقال شيئا منها:
1- طبيعة المجتمع ونسيجه التكويني: ممارسة الديمقراطية في
المجتمعات المتباينة في تركيبتها التكوينية والتي تضم في نسيجها كتل
تتباين في لغاتها أو أعراقها أو أديانها وطوائفها، تكون ديمقراطية
حساسة وربما خطيرة قد تؤثر على بنية ووحدة ذلك المجتمع وسلامة نسيجه.
فحينما شع نور الديمقراطية على ربوع المعسكر الإشتراكي أصبح الإتحاد
السوفيتي السابق دولا وأقاليم إنشطرت على أسس لغوية وعرقية ودينية.
وتحولت يوغسلافيا السابقة الى جمهوريات ودول وصارت جيكوسلفاكيا السابقة
دولتين هما جمهورية التشيك والسلوفاك.
هذا التفتت الجغرافي للدول قد حصل مباشرة حال إعلان الديمقراطية، بل
لن يقتصر الحال على تلك الدول فحسب،إنما إمتدت أيادي الديمقراطية لتحل
أواصر وحدة التراب في مجتمعات أوربا الغربية نفسها. فبلجيكا مثلا تمر
بأزمة سياسية حادة قد تفضي الى تقسيم هذا البلد الى ثلاث دويلات قائمة
على أسس التباين اللغوي في المستقبل. كما أن أقليم الباسك الأسباني
يسعى للإنفصال عن أسبانيا تحت ذرائع عرقية ولغوية. وكندا الفرنسيّة (كيبيك)
تنوي الإنفصال عن كندا الإنكليزية، وجيش إيرلندا السري كان يستعمل
العنف من أجل التأثير على حكومة بريطانيا المركزية بأن تقبل بانفصال
إيرلندا الشمالية عن بريطانيا بسبب الإختلافات الطائفية.
أمثلة أخرى كثيرة في بلدان العالم وخصوصا في بلدان عالمنا العربي،
حيث يلاحظ المتابع بأن الدول العربية التي تنتهج المنهج الديمقراطي
والتي تتباين تركيبتها الإجتماعية، هي في حالة من الهوس السياسي وعدم
الإستقرار مما ينذر بحصول مطاحنات مسلحة أو تفتت داخلي على أسس طائفية
أو عرقية! فلبنان مثلا خاض حربا داخلية على أسس دينية وطائفية ثم بقي
في وضع سياسي حرج لفترة طويلة، وقطاع غزة في فلسطين المحتلة منفصل
إداريّا عن الضفة الغربية والجزائر ينخر فيها الإرهاب منذ إجرائها
إنتخابات ديمقراطية والعراقيون منشغلون في بناء المتاريس تأهبا لحرب
أهلية! وهكذا فإن الأمور تشير الى أن الشعوب المتباينة في العرق أو
اللغة أو الطائفة قد تسعى للإنفصال عن بعضها وبشتى الطرق في ظل
الديمقراطية مما يجعل المرء يتساءل مع نفسه: أيهما أفضل ديمقراطية
التقسيم أم وحدة الدكتاتورية!؟.
2- ثقافة الديمقراطية : الوعي والعلم والأخلاق أسس هامة في ثقافة
المرء العامة والتي تعتبر المرحلة التحضيرية الأولى لتقبل الفرد ثقافة
متخصصة إسمها ثقافة الديمقراطية. الناخب غير الواعي لا يعطي صوته الى
من يستحق، والمرشح غير الواعي لا يقود ناخبيه الى برّ السعادة والأمان!.
في ظل هكذا ديمقراطية ستتدافع أصوات الناخبين في إتجاهات ضيّقة وخانقة
كالإتجاهات العرقية أو الدينية أو الطائفية حال فتح صناديق الإقتراع
وهذا ما سيولّد تقوقع على الذات ويكون مرحلة أولية للإنفصال والتشرذم
أو لنزاعات وحروب أهلية. الكثير من الظواهر الإجتماعية السلبية
والتقاليد والأعراف البالية التي تسود في بعض المجتمعات المتخلفة والتي
كان الدكتاتور يكتمها ويمنعها بحكم القوة، سوف تجد الطريق لها مفتوحا
حينما تعلن الديمقراطية. فمن الذي يستطيع أن يقف أمام إرادة شعب "غير
واعي" في ظل الديمقراطية!؟
الوعي والديمقراطية توأمان متلازمان لا ينفصلان عن بعضهما، فلا
ديمقراطية من دون وعي ولا وعي بلا ديمقراطية. الوعي للديمقراطية هو
عملية متواصلة متكاملة تبدأ في البيت وتنضج في المدرسة وتمارس في
الحياة العملية. يشارك في بناء هذا الوعي الآباء والمعلمون ووسائل
الإعلام وقادة الأمة ورواد حضارتها بكل صنوفهم ووجهاتهم. فبناء هذا
الوعي يعتمد كليّا على طبيعة مراحل نضوج الإنسان السياسي والثقافي
والإجتماعي والفكري.
3- المرحلة الإنتقالية: الديمقراطية المباغتة الواردة مع قعقعة
السلاح أو على ظهر دبابة، سواء كان بطريقة الإنقلابات العسكرية أو
بالتدخلات الخارجية، ستكون ديمقراطية عليلة هزيلة غير قادرة على الصمود
والتحدي. التحوّل السريع من حالة سياسية متوطنة الى حالة مناقضة دون
المرور بمرحلة تحضيرية إنتقالية سيكون مصحوبا بالمشاكل والعلل.
لقد نجحت دولة جنوب أفريقيا بإرساء دعائم الديمقراطية حينما حصل
إنتقال إنسيابي مدروس من مرحلة الدكتاتورية الى مرحلة الديمقراطية وضمن
مرحلة إنتقالية طويلة تم خلالها تحضير الشعب وتهيأته لممارسة خبرة
الديمقراطية. عرف المواطن هناك بأن لا سبيل له في العيش الهادىء غير
قبول الآخر واحترام وجهة نظره وإعطائه حقوقه الإنسانية بغض النظر عن
اللون أو العرق. غياب المرحلة الإنتقالية هذه سيولد فراغا أو فضاءا
واسعا بين مرحلة الدكتاتورية ومرحلة الديمقراطية يستطيع أعداء
الديمقراطية الولوج من خلاله من أجل إجهاض التجربة الديمقراطية
وتخريبها.
غياب المرحلة الإنتقالية يعني غياب ثقافة الديمقراطية ويعني بقاء
المفهوم الدكتاتوري في ممارسات الأحزاب السياسية، حيث ستسلك نفس سلوك
النظام الدكتاتوري من خلال رفض الآخر والتقوقع على الذات والإبتعاد عن
مبدأ المشاركة، وهذا ما قد يقود الى تكوين دكتاتوريات متعددة في ظل
الديمقراطية قد تتضارب مع بعضها فتكون أشد وباءا على المجتمع من
الدكتاتورية المركزية!
4- قادة الديمقراطية: تصاب في أغلب الأحيان الأحزاب المعارضة
للدكتاتورية بجرثومة " شبق السلطة" حيث نرى تهافت وإندفاع شديد نحو
كراسي السلطة والمراكز الحساسة في الدولة. قد تضيع مقاييس الضرورة في
فوضى الديمقراطية حال سقوط الدكتاتورية، فلا يصبح الرجل المناسب في
مكانه المناسب. وهكذا يحتكر السياسي، الذي يرى بأن الفرصة قد حانت،
مراكز الدولة الحساسة له فلا مكان للكفاءة ولا سبيل للخبرة! السياسي
المعارض للدكتاتورية وخصوصا في بلداننا العربية يكون مطاردا من قبل
السلطة وهذا ما يفضي الى حرمانه من فرص الدراسة والتحصيل العلمي
التخصصي. إدارة أمثال هؤلاء السياسيين غير المتخصصين لشؤون الدولة
ومؤسساتها ستكون إدارة سيئة ورديئة تنعكس آثارها على المجتمع عاجلا أم
آجلا ويتراجع عندها ذلك المجتمع الى الوراء بدلا من أن يتقدم الى
الأمام في ظل الديمقراطية!
5- الأطراف الخارجية : يستطيع العالم الخارجي أن يلعب دورين
متضادين في شأن نشوء الديمقراطية في بلد ما. فقد يقوم بدور إيجابي
وفعّال في صنع الديمقراطية ونشوئها وذلك عن طريق الضغوط السياسية
المستمرة على حكّام الدكتاتورية من أجل ترويضهم وجعلهم يرضخون للأمر
الواقع في إحترام متطلبات العصر. وهذا ما حصل فعلا في دولة جنوب
أفريقيا وفي دول المعسكر الإشتراكي السابقة، حيث أفضت الضغوطات
العالمية وخاصة الغربية الى تحول إنسيابي سلس من مرحلة الدكتاتورية الى
مرحلة الديمقراطية في تلك البلدان. أما الدور السلبي الذي يمكن أن
تنتهجه بعض الدول في تخريب الديمقراطية في بلد ما فيكمن في تدخلاتها في
شؤون تلك الدولة التي تمارس عملية الديمقراطية. هذا التدخل قد يكون
مباشرا عن طريق فرض الإرادة بإستعمال قوة السلاح أو بطريقة غير مباشرة
وذلك بالتأثير على قادة التحوّل الديمقراطي وإملاء أجندة خارجية عليهم.
هذا التدخل الصريح في شؤون البلد الداخلية قد يؤدي الى أن يصبح هذا
البلد ساحة لتصفية الحسابات بين الدول صاحبة الشأن والى إستقطابات
وتباينات ونزاعات داخلية وحرب بالنيابة قد يكون لها أول ولكن ليس لها
تالي وقد يصعب التكهن بنتائجها ومخلفاتها.
من هنا نستطيع الإستنتاج والقول بأن بذور الديمقراطية المزروعة في
تربة قاحلة غير مهيّأة وغير صالحة لنمو أزهار الديمقراطية وأقحواناتها
قد تنبت أشواكا سامة تؤلم أهل الديمقراطية وعشاقها.... |