منظمة التحرير... أم تحرير المنظمة؟

عقيل بن عبدالخالق اللواتي

من الايجابيات البارزة لحرب غزة وما تمخض عنها من نتائج ربما هي هذه العودة المتحمسة للحديث عن منظمة التحرير الفلسطينية.

لقد بقيت منظمة التحرير،عبر ما يزيد على أربعين عامًا، من المحرمات السياسية التي لا يوافق الفلسطينيون على المساس بها، باعتبارها الكيان السياسي والمعنوي والممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. وهذا ربما ما استدعى ردة فعل استثنائية ضد تصريحات رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الاسلامية حماس خالد مشعل عندما دعى الى تشكيل مرجعية جديدة للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، تكون بديلاً عن منظمة التحرير الفلسطينية التي لم تعد في نظره ومن ايده من منظمات وفصائل اخرى، قادرة على مثل هذا التمثيل.

هذه التصريحات اثارت ضجة سياسية كبيرة، وكان لها وقع كبيرعلى كل المعنيين بالقضية الفلسطينية؛ سواء في الداخل أم الخارج؛ حيث اعتبرها البعض انقلابا صريحا على المنظمة الفلسطينية، والتي لا جدال في اهميتها ومكانتها. فعندما نشأت المنظمة عام 1964، مثلت تحولاً مهماً في سجل النضال الفلسطيني خاصة على الصعيد الدولي.

ساهمت المنظمة في تأكيد حق الشعب الفلسطيني في قيام دولته على الاراضي الفلسطينية، وأسقطت الاكذوبة الاسرائيلية التي ادعت على لسان غولدا مائير، رئيسة الحكومة الاسرائيلية (1969-1974)، انه لا يوجد شيء اسمه «فلسطيني». منظمة التحرير لم تشكل البيت السياسي الفلسطيني فقط ؛ بل كانت الإطار الاوسع للجماهير الفلسطينية في الداخل والشتات في اتحادات الطلبة، والمعلمين، والمرأة، والعمال، والاطباء والمهندسين، والفلاحين والفنانين، إضافة الى انها شكلت الاطار السياسي الجبهوي لكل الفصائل الفلسطينية؛ باستثناء المنظمات الإسلامية التي كانت قد تأخرت في إنتهاج أعمال المقاومة حتى عهد قريب، أو انها رفضت الالتحاق في مؤسسات المنظمة لخلافات سياسية مع المنظمة.

في البداية، فُهمت أقوال مشعل بأنها دعوة لايجاد منظمة بديلة عن منظمة التحرير و بناء مرجعية سياسية جديدة بالكامل للفلسطينيين في الداخل والخارج وذلك بناء على الواقع الراهن لاوضاع المنظمة.

إلا أن حماس سرعان ما نفت أن يكون هذا ما طرحه رئيس مكتبها السياسي. وقال محمد نزال عضو المكتب السياسي للحركة: " إن مشعل لم يقل مرجعية وطنية فلسطينية بعيدا عن منظمة التحرير أو مرجعية تذهب لجامعة الدول العربية أو الأمم المتحدة تطلب اعترافا. لقد دعا إلى إنشاء إطار وطني يضم القوى المستبعدة من الإطار الوطني المتمثل في منظمة التحرير.. هذه القوى ستقيم إطارا وطنيا فلسطينيا لها يدخله من يقتنع ببرنامجها وخطها السياسي ويعمل بعيدا عن المنظمة ليس على اطار البديل ولكن لأن القائمين على منظمة التحرير يرفضون ان يفسحوا لهذه القوى المجال".

وبعيدا عن هذه الضجة والجدل المحتدم، فان هذه المطالبة من حماس تعكس في ثناياها طبيعة وأصل الخلاف السياسي القائم في الساحة الفلسطينية بين من يراهن على تسوية أوسلو، وبين من يعتقدون بفشل اتفاقيات أوسلو في تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني وبضرورة التمسك بالثوابت وبحقوق الشعب العربي الفلسطيني في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته المستقلة كاملة السيادة على كامل ترابه الوطني المحتل واستمرار المقاومة. ومن الصعب على أية حال فصل الجدل المستجد حول المنظمة والمرجعية الوطنية عن السياق الفلسطيني العام منذ توقيع اتفاقية أوسلو وتأسيس سلطة الحكم الذاتي، وعن الحرب على قطاع غزة وما نجم عنها من نتائج.

فالمنعطف الأهم في تاريخ منظمة التحرير الفلسطينية بدأ بعد توقيع اتفاقية أوسلو بينها وبين عدوها اللدود (سابقا) إسرائيل. لقد حققت اتفاقية أوسلو لإسرائيل ما كانت تحلم به، من اعتراف رسمي فلسطيني بشرعية وجود دولة إسرائيل، واعطت انطباعاً على الصعيد الدولي، بأن الصراع الفلسطيني العربي- الإسرائيلي قد تم حله، في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل، ولا زالت، تمارس احتلالها للأرض على الصعيد الفعلي، حيث ابقت قضايا الوضع النهائي، حول القدس واللاجئين، والانسحاب من كافة مناطق 67، والمستوطنات، والتفاصيل المتعلقة بالدولة الفلسطينية كاملة السيادة، إلى مراحل لاحقة، في ظل وضوح تام وكامل لوجهة النظر الإسرائيلية منها، الأمر الذي جعل منها عملياً، اتفاقيات تحقق للفلسطينيين حكما ذاتياً وإشرافاً على القضايا الحياتية للفلسطينيين، من دون تحقيق أي مظهر من مظاهر السيادة. فالتوقيع على اتفاقية أوسلو استبطن ما هو أخطر من ذلك: ان التسوية النهائية بين الفلسطينيين والدولة العبرية ستكون في جوهرها تسوية على مستقبل الضفة والقطاع، وليس على مستقبل كل الشعب الفلسطيني، الذي تمثله المنظمة، كما اسس للانقسام الفلسطيني-الفلسطيني، فيما بعد.

ومع تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية في مايو عام 1994 وانتقال زعيمها الراحل ياسر عرفات الى الداخل الفلسطيني، وتشكيل مؤسسات السلطة الفلسطينية وخاصة المجلس التشريعي الفلسطيني  أصبحت السلطة تحتل مكانة منظمة التحرير الفلسطينية كمرجعية سياسية للنظام الفلسطيني، فاخذت المنظمة تفقد اهميتها، واخذ دورها يتضاءل وينحسر رويداً رويداً، ولم يبق من صلاحيات للمنظمة في النهاية سوى دعوة لجنتها التنفيذية لوضع توقيعها على ما يتم إنجازه من اتفاقات، أو ما يتم اتخاذه من قرارات تستدعي موافقة منظمة التحرير حفاظا على الشكليات. لقد تحولت الى أشكال بيروقراطية لا أثر ولا تأثير لها ما شكل بداية مرحلة اختلطت فيها الأمور وتداخلت بين منطق الدولة ومنطق الثورة... بين نهج أوسلو والتسوية (اية تسوية) وبين مشروع المقاومة وعدم التفريط بأي حق فلسطيني.

لقد كانت أوسلو بداية نهاية المنظمة. فالسلطة المنبثقة عن أوسلو ألغت حقيقة مبرر وجود المنظمة، من خلال ابتلاع وتحجيم مؤسسات المنظمة لصالح السلطة وحكومتها. فهذه السلطة اُريد لها ان تكون في نطاق الضفة الغربية وغزة، حتى لا تعود هناك منظمة تمثل الشعب الفلسطيني كله، وتتحدث عن حق اللاجئين في العودة وتحرير الأرض المغتصبة.

واستنادا الى ما ذكر، فان السجال الفلسطيني الساخن حول المنظمة يطرح الكثير من الاسئلة، والسؤال الاساسي هنا هو: هل هناك مبرر حقيقي للمعركة الدائرة حول منظمة التحرير الفلسطينية؟

الفلسطينيون اليوم في حاجة إلى مرجعية تعبر عنهم، أعني كل الفلسطينيين في الداخل والشتات. وهناك حركات نشأت وتطورت خارج إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وكانت معارضة لها ولنهجها التفاوضي اهمها حركة حماس والتي أعطتها غالبية الشعب الفلسطيني أصواتها ما لمّح بوضوح الى عدم رضا اغلبية الفلسطينيين عن حال المنظمة وعن خطها ونهجها التفاوضي الذي أوصل الشعب الفلسطيني إلى طريق مسدود، والى مزيد من الاستيطان والحصار والاجتياحات.

اليوم وبعد نصف قرن تقريبا، منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وخلال هذه العقود المنصرمة، قد استنفذت دورها التاريخي، وأصبحت رهينة للسلطة الفلسطينية، واصبحت في سجل التاريخ الماضي... الا تقر الحقائق من ارض الواقع بذلك؟

لقد تساءل رمضان عبد الله شلح، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، خلال الحرب على غزة، "أين منظمة التحرير؟ لو كانت منظمة التحرير موجودة وتكلمت باسم الشعب الفلسطيني لاختلفت كل وجهة المعركة في هذه الحرب، إلا أن منظمة التحرير أذابوها في السلطة وسحقوها حتى تكون في خدمتهم "

ان اعلان حماس لم يكن من باب السذاجة او المراهقة السياسية، وانما اتى في سياق تداعيات العدوان على غزة؛ إذ ان المشهد السياسي في أعقاب هذا العدوان يكاد يجزم ان الحرب على غزة هي البداية الرسمية لما بعد منظمة التحرير الفلسطينية في التاريخ الفلسطيني الحديث. فبقاء منظمة التحرير بوضعها الحالي لا يؤهلها للتناغم مع الواقع المفروض على الأرض ولا يقنع هذا الوضع معظم الرأي العام الفلسطيني.

ولا شك أن ما طرحته حماس كفيل بضرورة مراجعة المنظمة، التي أصيبت بحالة منَ التكلس والجمود. فهذا الكيان يحتاج إلى بث روح وإعادة بناء شاملة، وربما يصح أن تكون جبهة المقاومة والتحرير ـ التي دعت إليها حماس ـ طرفاً اساسياً في إعادة بناء منظمة جامعة تمثل كل القوى والشرائح، وحتى لو حملت ـ هذه المرة أيضاً ـ اسم منظمة التحرير. فالمطلوب بناء منظمة، وليس الدفاع عن منظمة كفت عن الوجود الفعلي من زمن طويل. والمطلوب تحرير منظمة التحرير.. تحريرها من اسر السلطة ومن التبعية ومن كل ما يدعوها الى التغافل عن قضيتها الجوهرية وهي فلسطين وشعب فلسطين.

* كاتب عماني

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 1/آذار/2009 - 3/ربيع الاول/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م