هل الأخلاق مشكلة معطلة أم تربية مهذبة؟

زهير الخويلدي

من السهل النصح بالأخلاق والإرشاد إليها ولكن من الصعب تأسيسها والالتزام بها

 

هل يمكن أن نستنتج أحكام القيمة من أحكام الواقع؟

 ذلك هو المشكل الكبير الذي أثار حفيظة الفيلسوف الألماني والمنظر الأبرز لعصر التنوير ايمانيال كانط وجعله يتوجه نحو نقد العقل العملي ويبحث في أسس ميتافيزيقا العادات وترك لنا لنا نظرية في الحق ونظرية في الفضيلة ومحاولة من أجل سلم أبدية, ولكن فكرة الواجب التي دفعت كانط الى ربط القيم الأخلاقية بقوانين العقل لم تعجب فيلسوف المطرقة فريدريك نيتشه الذي انتبه الى خطورة الأحكام المسبقة الأخلاقية وبحث في أصلها وفصلها من أجل التحرر منها إعلان ثورة الغرائز على المؤسسات وتحرر الجسد من كل حكم قيمة واستحالة الخضوع إلى الواجب مع توفر إرادة المعرفة والعلم المرح.

في البدء يبدو احتكام الناس إلى جملة من المعايير التي ينظمون بها حياتهم ويؤصلون العلاقات فيما بينهم من الأمور المفضلة والجالبة للفائدة والخير على الجميع ويبدو فقدان ذلك والبقاء على حالة السليقة وحياة الطبيعة والغريزة من الأمور البهيمية الجالبة للفوضى والنزاع المؤذن باندثار النوع، ومن هذا المنظور كانت الأخلاق لزاما علينا من أجل الارتقاء فوق درجة الحيوان والتشبه بالإله على قدر طاقة الإنسان وكانت الحكمة منقسمة إلى جانب علمي يبحث عن الحقيقة وجانب عملي يشرع للقيمة ويحدد سبل تحصيل السعادة وتحقيق الحرية بالنسبة إلى الكائنات الآدمية.

غير أن الأمور ليست بهذه السهولة الموصوفة لأن حينما نفكر في مدلولات القيم والأسس التي تستند عليها الأفعال التوجيهية للفعل والغايات النهائية للسلوك البشري تظهر أمامنا الإشكاليات وتبرز الصعوبات خاصة حينما لا يكون المطلوب على درجة من الكونية والموضوعية والإنسانية ومشدود إلى المحلي والظرفي والخصوصي فهل يقتضي التحلي بالخلق التخلي عن أخلاق المجموعة التي ننتمي إليها أم الالتزام التام بعاداتها وأعرافها؟

من هذا المنطلق وكما يقول ماكس فيبر لا توجد في العالم أخلاق قادرة على فرض واجبات متماثلة، وما يعزز هذه الحيرة أن كل مجتمع له معاييره التي يميز بها الواجب والمحظور ولكل مجتمع خيره وشره ولكل هوية ثقافية معينة منظومة من القيم الخاصة بها والتي تفرضها على منتسبيها وكذلك التداخل في الصلوحية والمشروعية والمجالات بين الأخلاق والدين والتقاليد الموروثة وثقافة الوعظ وهو ما يعطل كل نمو وتجديد داخل الفضاء التنظيري للقيم ويجعله مرتهن الى جملة من القرارات السلطوية وقابع لأساليب الضبط والاكراه والتسلط والتوجيه وبالتالي يكون علامة على الخنوع والنكوص وعلى القصور والوصاية ويتعارض مع أية ثورة أو مشروع تقدمي انساني,

ان الاهتداء بنور الأخلاق أمر لا مفر منه بالنسبة لكل آدمي من أجل تحقيق انسيته وارتقائه الى درجات الوجود الأفضل وان التحلي بالخلق والقيم الأصيلة هو تقويم المسالك وترشيد الناس من المهالك واصلاح ذات البين وتهذيب الأنفس من الأحقاد وتطهير الأعراق من الدرائن,

ان التناقض حول أسس الأخلاق وغايتها والتردد حول الوسائل المتبعة وحول طبيعتها ومصدرها والمراوحة بين الطبيعة والمجتمع وبين الفطرة والعقل هو أمر لا مبرر من طرحه طالما أن الإنسان في نيته الصالحة وإرادته الحسنة وعفويته وانعطائه للعالم هو دليل العلماء إلى النبراس الهادي ومرشدهم الموصل الى السعادة والحرية والفضيلة والمنفعة والاعتدال في الضرورات.

ربما يكون من الأفيد أن نستنتج أحكام الواقع من أحام القيمة طالما أن جوهر الوجود هو الاستزادة من الوجود وحقيقة الواقع هي الامتلاء بالواقع. كما أن الأخلاق في حضارة اقرأ ليست مشكلة معطلة بقدر ماهي تربية مهذبة شرط ألا تكون أخلاق الوعاظ والمبشرين وأن تكون نابعة من العزم والإرادة وتطلب التصافي والتحابب وتتعالى عن المنفعة والطاعة وتتنزه من المصلحة والتباهي والتظاهر والشكلانية الفارغة.

 ربما كان ديكارت موفقا عندما اعتمد أخلاقا مؤقتة يسترشد بها في حياته اليومية وفي علاقته بالآخر والدولة أثناء ثورة شكه العارم وتطليقه لبت الامتثال المقدس للحقيقة الموروثة, وربما ينحو هيجل بأخلاقه الموضوعية وماركس بأخلاقه الإنسانية وسارتر بأخلاقه الوجودية وبرجسن بأخلاقه المفتوحة وماكس شيلر بأخلاقه الفنومنولوجية المتعاطفة في نفس السياق.

 ولكن السيء هو أن نلقي بالقيم الأخلاقية في المزبلة وندوس عليها بالأقدام ونرمي بها عرض الحياة ونتصرف ونصول ونجول في العالم دون ضوابط ودون معقولية ونبرر ذلك بالتمتع بنعمة الحرية والإقبال على الوجود وحب الحياة. اذا كانت الأخلاق هي ما لا يهم أحد اليوم فانه ليس من المعقول أن يخضع ما يهم الجميع الى ما لا يهم أحد.

لكن الأمر الجلل اليوم يبرز عند الحديث عن جدوى الدفاع عن الأخلاق في ظل تزايد القواعد الخصوصية الصالحة فقط لوضعيات محدودة والمنفلتة من قواعد التقليديات الأخلاق الكونية مثل خلق المهنة والبيئة والحياة، فأي مستقبل للأخلاق في ظل سطوة السياسة السياسوية والاقتصاد الأنانوي؟

أليس أعظم خطر على الأخلاق كما يرى فردريك رويه ليس في الأنانية الفردية الواعية بل في الأنانية الجماعية اللاواعية التي تشرعها الدساتير والمؤسسات الاجتماعية؟

* كاتب فلسفي

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 1/آذار/2009 - 3/ربيع الاول/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م