الإسلام وضع قواعدَ وأُسساً تحفظ الوحدة الداخلية، وتلاحم المجتمع
لمواجهة التحديات والأزمات، لهذا ذهب بعض الفقهاء إلى (تحريم التحالف
في الإسلام)، لكي لا تسود المجتمع المسلم النزاعات، واستند هؤلاء في
تحريمهم إلى حديث رواه أحمد في مسنده عن رسول الله (صلى الله عليه
وآله): (لا حلف في الإسلام).
ولكن فقهاء آخرين يقرؤون حديث الرسول (صلى الله عليه وآله) قراءة
أخرى، فهم لا يجمدون عند النص، ويميزون بين نوعين من التحالف، أحدهما
لا يؤدي إلى انقسام الأمة، بل يقود إلى حرية الرأي داخل المجتمع الواحد
للوصول إلى تلاقح الأفكار، وصياغة أفضل البرامج والأساليب في إطار
المنهج الإسلامي الذي يحكم ويوجه الجميع.
وقد نشأ إثر هذا الفهم توجهان بشأن المعارضة السياسية في الدولة
الإسلامية:
الأول: لا يجيزها بدعوى أن رجال السلطة لهم مواصفات قررتها الشريعة
(كالعدل، والعلم، والتقوى، والالتزام بمبادئ الإسلام). وفي ظل هذه
الطبيعة والمواصفات لا داعي لوجود معارضة، لأنها لو تحركت في واقع
الحياة الإسلامية، وفي داخل الحكم الإسلامي ستعرض الوحدة للتزلزل
والاضطراب، وتصبح أداة بأيدي الحاقدين على الإسلام، الذين يبحثون عن أي
ثغرة لنقد التصور الإسلامي ومقوماته للحكم والدولة والسياسة.
أما الاتجاه الثاني: فيرى مشروعية قيام معارضة سياسية داخل الإطار
الإسلامي الواحد، تتحرك في موقعها لترشيد الحكم، وتصحيح الأخطاء،
مستندة إلى مرجعية إسلامية ـ تحكم وتضبط الجميع ـ تجعلها تتحرك في نفس
الخط الإسلامي العام، ولا تخرج عن الثوابت والمعايير الإسلامية للمجتمع
وأن كانت هذه الحركات غير اسلامية.
وأعتقد أن المعارضة بتحركها المنهجي والملتزم هذا ترسخ كيان المجتمع
الاسلامي وتؤصّله وتحفظه، فمعارضتها تأتي من خلال رؤية اجتهادية تراها
شرعية للتحرك والعمل للإسلام، وتصحيح بعض الأخطاء، لأن الحكم الإسلامي
ليس معصوماً عن الخطأ.
والمعارضة هنا تكون ملتزمة بالمبادئ الإسلامية العامة، وبكليات
الدولة، لكنها متحررة ولا تتفق في كثير من الأحيان مع أساليب السلطة
الإسلامية الحاكمة، فلديها آلياتها وأساليبها ورؤيتها المختلفة حول
السياسة الاقتصادية، والتنمية، والبطالة، وأنظمة العمل، وحول البرامج
الاجتماعية، والقضاء على الأمية، وبرامج التعليم، والصحة، والضمان
الاجتماعي ونوعيته، والتخطيط الأفضل لممارسة السلطة على أسس العدالة
والاهتمام بمشاكل الناس.
وتنطلق المعارضة في تحركها من (نظرية الحرية في الإسلام)، ومن
اختيار الإنسان وإدراكه ومسؤوليته الشرعية، على أن لا يؤدي هذا التحرك
إلى تجاوز الثوابت، أو تعريض الاستقرار السياسي والاجتماعي للخطر.
ويربط بعض المفكرين الإسلاميين بين مبدأ (الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر) وبين مشروعية قيام المعارضة في الدولة الإسلامية، فالإسلام يضع
مسؤولية شرعية على عاتق أفراد الأمة لتغيير المنكر إن وقع سواء كان
صادراً من الحاكم أم المحكوم.
ويمكن للمعارضة غير الإسلامية أن تجد لها موقعاً في الدولة
الإسلامية وفق نفس القواعد والمعايير السابقة، أي بالتزامها بثوابت
النظام الإسلامي العام ومبادئه وأحكامه، وبحفاظها على ثوابت الأمة
ومقدساتها.
فإذا خرجت عن ذلك وعرضت المجتمع للانشقاق والخطر، ينظر إليها حسب
موقعها وواقعها السياسي والاجتماعي ، فلكل واقعة من الوقائع ظروفها
وملابساتها، فلا يمكن إصدار أحكام عامة على المعارضة غير الإسلامية دون
أن نتبين ماهيتها، وما تمثله من خطر حقيقي وواقعي ملموس يهدد كيان
المجتمع الاسلامي ووجوده ومصالحه والتزامها بالدستور والقانون النافذ.
* مفكر وباحث قانوني
kassemabbas@hotmail.com |